التربية الوالدية : من الإنجاب إلى الإنجاز
التربية الوالدية : من الإنجاب إلى الإنجاز

السفير 24 – محمد رياض
يحيل هذا العنوان على رحلة الانتقال من لحظة الولادة والوجود البيولوجي للطفل إلى اللحظات التي يصبح فيها ذلك الذي كان طفلا فردا ناجحا في حياته مؤهلا للمساهمة في بناء المجتمع وفاعلا فيه، كما أنه يشير إلى مسؤولية التربية والتعليم في هذا التحول، مما يسلط الضوء على أهمية تنمية شخصية الطفل في أبعادها المختلفة، وعلى مسؤولية الآباء في السعي إلى تحقيق هذا الإنجاز.
يحيط الوالدان لحظة الإنجاب بهالة كبيرة من الفرح وتشيع في نفسيهما وفي ذويهما مشاعر السعادة والاعتزاز بالمولود الجديد، وهو أمر طبيعي إذ هي لحظة فارقة في حياة الوالدين تستتبعها جملة من المهام الجديدة، لكنها ليست الغاية والهدف وإنما هي البداية للرحلة نحو الإنجاز التي تبدأ بغرس القيم والأخلاق النبيلة وتجسيدها في السلوك والممارسات والمواقف داخل الأسرة وخارجها، وتنمية مختلف المهارات والقدرات التي تساهم في تعزيز وتقوية شخصية الطفل وتأهيله لأن يكون قادرا على الفعل والتفاعل الإيجابي الخلاق مع واقع الحياة ومتغيراتها والتحديات التي تطرحها، وهي مسؤولية جسيمة وليست بالهينة، فاليوم يواجه الآباء ظروفا جديدة تجعل مهمة التربية أكثر تعقيدا من أي وقت مضى ( سطوة وسائل التكنولوجيا الحديثة والتعاطي السلبي معها، ضغوطات الحياة الاجتماعية، تأثيرالأقران… )، وتجعل أمر تحقيق الإنجاز صعبا ولكنه ليس مستحيلا، إذ على الآباء أن يدركوا أنها تمثل تحديا يختبر حدود مسؤولياتهم وكفاءتهم التربوية والاجتماعية والأخلاقية، فلقد صار من اللازم أن يتسلح الآباء للنجاح في تحقيق هذا الإنجاز بمجموعة من مهارات ” الأبوة والأمومة ” بما تحملانه من دلالات تربوية واجتماعية تتجاوز الدلالة البيولوجية تبدأ بالوعي بالمهمة الملقاة على عاتقهم والإعداد لها وبذل الجهد والصبر لتحقيقها. والتربية الناجحة التي تؤدي إلى تحقيق الإنجاز هي التربية الإيجابية التي تجمع بين المرونة والحوار والحزم والتوجيه السليم، وبهذا الأسلوب يمكن للآباء تحويل الإنجاب إلى إنجاز لهم ولأبنائهم سيسعدهم كثيرا.
إن بعض الآباء يعتقدون أن توفير مستلزمات الحياة الأساسية من مأكل وملبس وتعليم يجزلون فيها العطاء المادي هو الدور الذي يجب عليهم القيام به وأنها هي مهمتهم الأسمى، وأنهم بمجرد تحقيق ذلك يكونون قد أدوا واجبهم التربوي بالكامل، لكن الحقيقة أن التربية تتجاوز بكثير تأمين هذه الاحتياجات إلى الدعم العاطفي والتواصل المستمر وترسيخ القيم والسلوك الإيجابي والتوجيه السليم وتنمية المهارات، وإلى الحاجة إلى الأب القدوة والأم القدوة مصدري الإلهام.
لقد بتنا نعاين ظواهر تمثل حقا جُرما في حق الأبناء وتربيتهم كأن يسلم الآباء أبناءهم مبكرا إلى الألعاب الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي تفعل فعلها فيهم دون رقيب أو حسيب، فلا يملكون الصبر والجهد الذي تتطلبه التربية السليمة فتكون لذلك أضرار سلبية عميقة على شخصيات الأطفال وعلى تحصيلهم الدراسي، كذلك يعمد بعض الآباء إلى العطاء المفرط والتدليل والليونة المبالغ فيها، فلا يردون لأبنائهم طلبا حتى و إن كان يمثل خطرا عليهم وعلى حياتهم أحيانا ( شراء دراجات نارية لغير الضرورة، أجهزة الغش في الامتحان…) ويجدُّون في أسلوب التساهل وتبرير تصرفات أبنائهم ( الابن الوحيد، انفصال الوالدين…) ولا يواجهونها بما يتطلب من الحزم والتوجيه لتصحيحها.
إنها نماذج سيئة من حالات متعددة في تربية الأبناء تعيق الرحلة نحو الإنجاز حيث يرتكب هؤلاء الآباء أخطاء تؤثر سلبا على شخصية الطفل ومستقبله، فقد تكون ناتجة عن حسن نية أحيانا لكنها تبقى أخطاء جسيمة ناتجة عن فقر معرفي وتربوي لدى الآباء حول مبادئ التربية السليمة أو هي انعكاس لأعطاب نفسية واجتماعية يعاني منها الآباء أنفسهم فتنتقل إلى الأبناء وتتجسد في تصرفاتهم وسلوكهم فتتعثر رحلة الإنجاز مبكرا.
إن الطريق من الإنجاب إلى الإنجاز هي طريق الحرير المحفوفة بالتحديات نحو المبتغى والنجاح الذي يأمله كل أب أو أم، بما يتطلبه كل ذلك من المعرفة والجهد والصبر والمواكبة الفعالة واليقظة المستمرة لأن الأمر يتعلق ببناء الإنسان.. هذا الإنسان هو الابن أو البنت الأحب إلى والديهما، وهو البناء الذي لا يستقيم إلا بهذه الشروط في بيئة أسرية متوازنة.
إن الرحلة من الإنجاب إلى الإنجاز صعبة بالفعل، ولكنها شيقة وممتعة في الكثير من محطات النجاح فيها.
أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي
مهتم بقضايا التربية والتعليم