“الخريف العربي” لحكومات ما بعد دستور 2011 – الجزء الأخير
* بقلم : د. المصطفى ساجد
لذلك فتضافر وارتباط النفوذ الاقتصادي بالنفوذ السياسي، يوظف الثروة، المعفية من الضرائب وتضحيتها بالبحث العلمي، بتبني نموذج استهلاكي مرتبط بالبذخ والرفاه وتشجيع التهافت على السلع المستوردة والكماليات، (سيارات، مجوهرات، سفريات، تجهيزات، استثمارات عقارية بالداخل والخارج…) مما ينتج عنه نزيف مالي من العملة نحو الخارج يخدم مصالح مقاولات الدول الأجنبية الصناعية.
فمنذ تطبيق سياسة التقويم الهيكلي، تحت وصاية المؤسسات المالية الدولية، والتي تهدف إلى تدبير الأزمة المالية والاقتصادية والتي تفسر بالعجز الداخلي، على مستوى ميزانية الدولة، والعجز الخارجي، على مستوى ميزان الأداءات وعدم القدرة على تسديد المديونية في آجالها، فالهاجس الأساسي أضحى هو تحقيق التوازنات الماكرواقتصادية وخاصة الحد من العجز الداخلي والخارجي. فالحاجة الملحة لفائض من للعملة الأجنبية، لتسديد خدمة الدين الخارجي وأداء فاتورة الواردات، دفعت الدولة إلى نهج سياسة اقتصادية ليبرالية أكثر انفتاحا على الخارج.
وفي إطار اعتماد اقتصاد جد منفتح على الخارج، سيتم تشجيع المنحنى الخارجي لقطاعات اقتصادية معينة باعتبارها أنشطة مذرة للعملة الأجنبية، كالفلاحة التصديرية والسياحة الدولية وتصدير المواد المعدنية خاصة الفوسفاط، و النسيج الخ.
فحالات الطوارئ الصحية المتخذة من طرف دول المعمور لتدبير الأزمة الصحية وللحد من انتشار الوباء، وخاصة التدابير والإجراءات المرتبطة بإغلاق الحدود، لها عواقب وأضرار وخيمة وجد صعبة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وحتى على المستوى الجبائي بالنظر إلى الركود الاقتصادي الناجم عن شلل قطاعات تساهم في نسب النمو الاقتصادي، كقطاع السياحة والنقل الجوي. وفي هذا الإطار يجب الإشارة إلى أن الدول التي تراهن على القطاع السياحي، في سياساتها وبرامجها الاقتصادية، عانت كثيرا من الركود التام لهذا القطاع المذر للعملة الأجنبية و الذي له آثار إيجابية على مجموعة من الأنشطة الاقتصادية بأماكن وجهات الاستقطاب، كالصناعة التقليدية والمطاعم و الفنادق والنقل والتجارة وخدمات معينة الخ.
فالقطاعات الإنتاجية المشجعة منذ سنوات الستينات، في إطار الاختيارات والمخططات الاقتصادية والاجتماعية، ستصبح، منذ تطبيق برنامج التقويم الهيكلي سنة 1983، موجهة أكثر نحو خدمة تحقيق التوازن الخارجي بمنظور ريعي، دون المبالاة بهيكلة هذه القطاعات التي يتوفر فيها المغرب على مؤهلات وموارد هامة كالقطاع الفلاحي والسياحي و الصيد البحري، ودون جدية الاهتمام بمخاطر هذه الإستراتيجية الاقتصادية التي تهمل عدة جوانب وعوامل داخلية وخارجية لها تأثيرات على هدف تحقيق التنمية الاقتصادية و الاجتماعية الشاملة.
فالمشاكل الاجتماعية لا تفسر فقط بنهج سياسة اقتصادية ليبرالية تقلص من دور الدولة على مستوى الاستشارات العمومية والنفقات الاجتماعية، بل أن تفشي مظاهر البطالة والفقر وتفاقم حدة الفوارق الاجتماعية والمجالية … هي معضلات تجد أسبابها كذلك في اقتصاد الريع وفي الاستثمار في الأنشطة الأكثر ملائمة مع الربح السريع والفاحش، في غياب المنافسة وفي ظل مناخ احتكاري ونظام الامتيازات و استغلال النفوذ والتموقع بقنوات ودواليب السلطة، ومن خلال تهميش القطاع الصناعي المرتبط بالبحث العلمي وبالابتكارات، والذي يتطلب سنوات عديدة من الاستثمارات أو ربح رهان التنافسية بالبحث العلمي، قبل التمكن من الربح وتغطية التكاليف.
فمشاكل الاقتصاد المنفتح على الخارج، بالنسبة للدول النامية كحال المغرب، تكمن في دوام وتجدر التبعية الاقتصادية في ظل اقتصاد عالمي في خدمة الدول الصناعية المتقدمة، والتي أثرت من خلال استعمارها وهيمنة مؤسساتها المالية وتكثلاتها وضغوط شركاتها- التي أضحت لها قوة التأثير على السياسات العمومية- على النمط الاقتصادي والإنتاجي للدول النامية، والتي في غالبيتها، لم تستدرك بعد الفوارق الصناعية والتكنولوجية مع الدول المتقدمة والخروج من مكانتها الهامشية في إطار تقسيم دولي للعمل وخريطة إنتاجية عالمية تحت تأثير الدول ذات السبق الصناعي والتكنولوجي.
فالأزمة الصحية الشاملة لوباء كورونا أوضحت سلبيات ومخاطر الاقتصاد جد المنفتح على الخارج، وذلك من خلال ارتباطه بظرفية عالمية وبتقلبات ومستجدات غير متحكم فيها.
فركود القطاعات المرتبطة بالخارج أثر كثيرا على نسبة تغطية العجز التجاري المزمن و بالتالي على احتياطي العملة بميزان الأداءات، بحيث أن عجز الميزان التجاري سجل ما يناهز 158.68 مليار درهم لسنة 2020 وأن عجز الحساب الجاري لميزان الأداءات سجل رقم 16 مليار درهم لسنة 2020 مقابل 42.4 مليار درهم لسنة 2019.
فمع اندلاع أزمة كورونا، وبعدما اتضح أنها ستؤثر على نسبة النمو وعلى الموارد الجبائية وبالتالي على تفاقم عجز الميزانية، أرغمت الحكومة الى اللجوء لقروض البنك العالمي لتمويل العجز الداخلي والخارجي. فعوض الاهتمام بتنمية الموارد العمومية- عبر سن استراتيجية إقتصادية ملائمة، ترفع من نسب النمو وتأخذ بعين الاعتبار الجوانب الاجتماعية والبيئية في إطار تنمية مستدامة، ومن خلال وضع نظام ضريبي منصف وعادل و ذو مردودية – فالهاجس الرئيسي والأساسي، لحكومات ما بعد دستور 2011، هو تحقيق التوازنات الماكرواقتصادية – خاصة على مستوى ميزانية الدولة- عبر خفض النفقات العمومية، وبالدرجة الأولى النفقات ذات البعد الاجتماعي واعتبارها كعبء على ميزانية الدولة وليس كمهام من واجب الدولة القيام بها، وليس التملص منها لما لها من آثار إيجابية على صحة وتعليم الإنسان ولتغطية التكاليف الاجتماعية الأخرى للإنسان كجزء من مجتمع يرتكز تماسكه على روابط سياسية وثقافية وتاريخية وحضارية واجتماعية إلخ.
فحكومات ما بعد دستور 2011 اعتادت على الطريق السهل لتمويل العجز الداخلي والخارجي باللجوء لقروض المؤسسات المالية الدولية وقروض من دول معينة، بحيث أن حجم الدين الخارجي يناهز 374.3 مليار درهم بالنسبة لسنة 2020.
وفي هذا الإطار، يجب التذكير باقتراض 6 مليار دولار سنة 2012 من صندوق النقد الدولي لتمويل عجز داخلي بحجم 7%. في ظل ظرفية عالمية صعبة تتسم بارتفاع سعر البترول بحيث أن برميل البترول Baril de pétrole تجاوز 120 دولار في سنة 2011، وأن هذه الأزمة البترولية أثرت كثيرا على المالية العامة وعلى الميزان التجاري من خلال فاتورة الواردات البترولية الضخمة، خاصة وأن المغرب يلبي حاجياته الطاقية بالتموين الخارجي. فالعجز السنوي للميزانية يرفع من حجم الدين الخارجي عبر مرور السنوات ” effet boule de neige” و أنه يؤزم، ليس فقط وضعية الفئات الحالية، بل كذلك وضعية الفئات المستقبلية التي ستعاني من سلبيات الدين الخارجي، الغير مسؤولة عنه، والذي لتسديده، يدفع الحكومات المتعاقبة الى الرفع من نسب الضرائب والى تقليص النفقات العمومية واعتماد سياسات تقشفية.
فحجم الدين الخارجي ينجم عن تراكمات سنوية للحجز الداخلي للميزانية، هذا العجز الداخلي الذي يفسر، حسب منطق الحكومات المتعاقبة، بحجم النفقات العمومية والتي يتم اعتبارها كمسؤولة عن عبء الميزانية ويوجب بذلك تقليصها، في إهمال تام لتفسير العجز الداخلي من شق المداخيل، بحيث أنه يتم إضعاف المداخيل بترك ثروات طائلة دون اقتطاعات ضريبية، من خلال سلوكيات التهرب الضريبي واستغلال النفوذ وإعفاءات قطاعات معينة وبعدم سن ضريبة على الثروة إلخ، وكذلك عبر الاستغلال البشع للمسؤوليات باستغلال المال العام لأغراض شخصية وحتى نهبه بتعليف الأرصدة البنكية وتبييضه في العقارات والمشاريع الاستثمارتية، كل ذلك في إطار تشجيع مناخ الإفلات من العقاب “Impunité” و استراتيجية “عفى الله عما سلف” حسب تصريحات رئيس الحكومة السابق عبد الاله بنكيران و “لي كال بصحتو” حسب ما أدلى به المصطفى الرميد، وزير حقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان، خلال ندوة نظمت بكلية الحقوق بالمحمدية.
فأية سلطة لحكومات تمر بوزراء يتمسكون برواتب ضخمة كامتيازات وجزاءات دائمة، رغم أن البلاد مثقلة بالديون الخارجية وأن الفوارق الاجتماعية والمجالية تفاقمت أكثر وأن الحريات وحقوق المواطنة في تراجع مستمر؟
في سياق ما يسمى بالربيع العربي، الذي تجسد في انتفاضات وثورات على مستوى مجموعة من الدول العربية، والذي تمخضت عنه تغييرات مست جوهر الأنظمة السياسية أو في الهندسة الدستورية والمؤسساتية، كانت هناك تطلعات وطموحات لشعوب الدول العربية لتغيير ملموس على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي. إلا أن حكومات ما بعد دستور 2011- عوض وضع السياسات العمومية صوب تغطية حاجيات وتكاليف المواطنين واحترام حقوقه- أجهزت على المكتسبات والحقوق و اجتهدت في مباشرة أوراش ومبادرات “التقشف الاجتماعي” وفي إنهاك جيوب المواطنين (تحصيل النسبة المهمة من الضرائب عبر الاقتطاعات من الأجور والضرائب غير المباشرة، شراسة منطق الدعائر بأهداف تطعيم الصناديق العمومية، التضخم بارتفاع الأسعار وضرب القوة الشرائية، تجميد الأجور وتعطيل الحوار الاجتماعي الجاد، عدم احترام الحد الأدنى في الأجور بالقطاع الخاص، إلخ…). من الفئات الفقيرة والمتوسطة، وفي مباركة تشريعات الحد من الحريات وخنق وقمع وترهيب الإضرابات والاحتجاجات. الفئات، التي تتخبط في المعاناة ومظاهر الفقر من سكن غير لائق وبطالة وغياب الحماية الاجتماعية…، تؤدي ثمن سنوات الاستغلال الاستعماري وسنوات نهب الخيرات ما بعد الاستعمار في ظل حكومات متعاقبة اكتفت في تدبير الأزمة المالية والاقتصادية دون العمل على وضع مشروع مجتمعي يحقق التغيير المنشود.
فتدبير الأزمة الصحية الشاملة لوباء كورونا أوضح كارثة عدم الانسجام الحكومي وهيمنة قطاعات وزارية كوزارة الداخلية والخارجية، خاصة في شأن قساوة قرارات وأثارها جد الوخيمة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وعلى حريات وتنقلات المواطنين، والتي تطرح إشكالية الدور الفعلي لرئيس الحكومة الذي يخوله دستور 2011 ممارسة سلطته على جميع القطاعات الوزارية بدون استثناء. فكيف يعقل أن رئيس الحكومة يؤشر على احتجاز عشرات المواطنين بالمطارات لمدة تفوق 24 ساعة دون السماح لهم بالالتحاق بذويهم أو خضوعهم لحجر صحي بالفنادق كما كان معمول به حينئذ؟
فمعاناة المواطنين – جراء القرارات القاسية وقرارات التدبير بالمزاج- يتحمل مسؤوليتها رئيس الحكومة مادام أن كل القطاعات الوزارية تعمل تحت وصايته وسلطته. بالرجوع الى فصول دستور 2011.
فما أدلى به رئيس الحكومة السابق، عبد الاله بنكيران، أنه ” جاء لمحاربة الفساد وأن الفساد حاربه”، فهو اعتراف بأن السلطة الفعلية ليست بيده رغم الصلاحيات الدستورية المخوله له.
فرئيس الحكومة السابق خصص كل ولايته للتزمير ومحاولات التهديد بفضح المستور، من فساد مالي وهيمنة طبقة معينة على السلطة وخيرات البلاد، إلا أن الجرأة غابت عنه وأن المسؤولية الجادة، للتغيير الحقيقي لأوضاع البلاد على كافة المستويات، منعدمة وأنه لا يعدو أن يكون إلا “التلميذ المجتهد” في التراجعات وضرب المكتسبات و “المطبق المطيع” لتوصيات المؤسسات المالية الدولية ولتعليمات الجهات النافذة، وأنه يتجنب الدخول في صراع من ” عفاريت وتماسيح” لها كامل المسؤولية في المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية و البيئية وفي تفاقمها.
إذا كانت بالدول، التي قطعت أشواطا كبرى في مسارها الديمقراطي والسياسي، الحكومات تتشكل من أغلبية أحزاب تتقارب في إيديولوجياتها وأدبياتها وبالتالي في مشاريعها المجتمعية، فعكس ذلك ففي الدول الأقل ديمقراطية، يصبح الهاجس الوحيد والطموح الغريب هو الاستوزار والمشاركة في الحكومة ولو مع أحزاب لا تتقاسم بينها أي شيء وتتعارض في مرجعياتها وتوجهاتها، وذلك على حساب التجانس والانسجام الحكومي الذي يعد من العوامل لتبني وتطبيق برنامج حكومي يرتكز على مشروع مجتمعي واضح المعالم والأهداف.
فجل الأحزاب- بما فيها أحزاب شكلت “الكتلة الديمقراطية” كحزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية- شاركت ضن أحزاب الأغلبية المشكلة لحكومات ما بعد دستور 2011 يترأسها حزب العدالة والتنمية. هذا المشهد السياسي الغريب لا يسمح بتاتا بالتفكير في معارضة بناءة وفي مسألة التداول على السلطة ” Alternance politique”، وأن الصراع على المواقع والكراسي أضحى أهم من الصراع الطبقي ومن الصراع السياسي لتشكيل حكومة بمشروع مجتمعي تتقاسمه أحزاب الأغلبية في انسجام تام. فغرابة تشكيل حكومة هجينة بين أحزاب تتباعد كليا في مرجعيتها السياسية والايديولوجية، هي التي دفعت الحزب الشيوعي الفرنسي الى التشطيب على حزب التقدم والاشتراكية من بين الأحزاب الصديقة والحليفة على المستوى العالمي.
رغم أن الفصل 47 من دستور 2011 ينص على أن رآسة الحكومة ترجع للحزب الحاصل على أعلى الأصوات في الانتخابات التشريعية، (الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب وعلى أساس نتائجها)، إلا أنه في غياب الحصول على أغلبية المقاعد، يوجب على من يعين كرئيس للحكومة تشكيل حكومة بإتلاف مع أحزاب أخرى.
فقد لوحظ – عندما تعذر، على من تم تعيينه أولا رئيسا للحكومة، تشكيل حكومة رغم لهاته وبطرقه لأبواب كل الأحزاب بدون استثناء، كيف أن هاجس الأغلبية العددية هو المتحكم في “البلقنة الحكومية” وليس عامل التجانس وتقارب في المشاريع المجتمعية. فالنفق المسدود، عند تعذر تشكيل أغلبية حكومية، أبان عن محدودية الفصل 47 من الدستور بعدم تطرقه لهذه الوضعية وكيفية حلها.
المستخلص من التجارب الحكومية والعمل السياسي بالمغرب الذي تنهجه الأحزاب هو ما يلمسه المواطن المغربي ويقف عليه من بؤس في الممارسة وابتعاد الفعل السياسي عن الأخلاق ونبلها وتكريسها لخدمة الشأن العام، وتحقيق آمال وتطلعات المواطنين.
حيث يلمس المتتبع لتصريحات بعض الوزراء التي لا تترجم إدراكها لحجم المسؤولية الملقاة على عاتقها، وخير دليل ما صرح به صاحب مقولة “البليكي”، بمنطقها الانتهازي القبيح. وهي التصريحات التي تؤكد بان السياسة بالمغرب أضحت استثمارا في مآسي الشعب و وسيلة للاغتناء الفاحش السريع في إطار إفساد اللعبة السياسية برمتها واحتواء النخب وتدجينها وتوريطها ودمجها في قالب الامتيازات التي تشرع في أوجههم أبواب العيش في البذخ و التسلق الاجتماعي صوب الطبقة البورجوازية الريعية.
ولعل ما تعيشه الانتخابات الحالية من صراعات وتجاذبات على الكراسي والمواقع، وكذا سرعة تغيير المعاطف والتلوينات الحزبية، لخير دليل على التردي الخطير الذي نعيشه والتراجعات الكارثية والمهولة مقارنة مع ما عشناه سابقا من روح تنافسية تراعي على الأقل الحد الأدنى لإدارة الصراع السياسي.
أستاذ بكلية الحقوق بالمحمدية*