السفير 24 – بقلم: أحمد لعيوني
نظم مختبر اللغات والفنون والعلوم الإنسانية بكلية اللغات والفنون والعلوم الإنسانية بجامعة الحسن الأول بمدينة سطات، في إطار أنشطته العلمية للسنة الجامعية، محاضرة علمية ألقاها الباحث المصطفى اجماهري في موضوع “كتابة المدينة : تجربة دفاتر الجديدة”. وقد أشرف على تنسيق هذا اللقاء المنعقد بقاعة الندوات بمركز البحث والابتكار التابع للجامعة، طاقم من أساتذة الكلية: مراد الخطيبي، وأنس بن إشو، وبوشعيب الساوري.
افتتح اللقاء بكلمة ترحيبية للدكتور عبد القادر سبيل، عميد الكلية، الذي عبر عن شكره للمحاضر على استعداده للمساهمة في الأنشطة الثقافية التي ينظمها مختبر كلية اللغات، من أجل تنمية فكرية وثقافية يستفيد منها طلبة هذه الكلية الفتية. أما الدكتور مراد الخطيبي، الأستاذ بنفس الكلية، ومسير اللقاء، فأكد على أن من أهمية التاريخ والتراث المحلي بالنسبة للمجتمعات والحضارات، ضرورة صيانته والحفاظ عليه كهوية. فالذاكرة هي تأسيس الذات في الحاضر، ولكنها في نفس الوقت مستقبلية، وهي تساؤل حول الزمن والحياة والموت. ذلك أن الذاكرة كما الهوية ليست شيئا جامدا أو ميتا، ولكنها حاضر ممتد في المستقبل. ويرى ذ. مراد الخطيبي أن مشروع الكاتب والباحث المصطفى اجماهري العلمي والتوثيقي يندرج في إطار هذا التوجه الهادف لصيانة الذاكرة كي لا تبقى رهينة الماضي، وتتلاشى بفعل النسيان والتجاهل. ومن ثمة، فالأستاذ اجماهري يعيد كتابة هذه الذاكرة، وينفث فيها الروح من جديد من خلال مشروع فردي بناه، بمجهوده الخاص، في إطار “دفاتر الجديدة” لمدة أكثر من ثلاثين سنة. كما قدم نبذة عن مسار الباحث بكونه عضوا باتحاد كتاب المغرب، حاصل على دبلوم الدراسات العليا في الصحافة، وعلى ميزة الشرف في المباراة الدولية لأحسن المقالات الصحفية حول التراث من المعهد الدولي للدراسات والمحافظة على التراث بروما سنة 2001، وجائزة شخصية السنة لمدينة الجديدة سنة 2005.
وقبل انطلاق الباحث المصطفى اجماهري في عرض تجربته في كتابة المدينة، قدم للطلبة الحاضرين ولمكتبة الكلية مجموعة من مؤلفاته، قصد التعرف على أعماله الصادرة في سلسلة “دفاتر الجديدة”. وفي تناوله للكلمة أبرز من خلال مساره تجربته الشخصية في كتابة الذاكرة المحلية لمدينة الجديدة ومنطقة دكالة، والحيثيات والظروف التي جعلته يطلق مشروعه البحثي الذي اختار له اسم “دفاتر الجديدة” بدءا من سنة 1993.
وقد اقترح المحاضر إعطاء الحاضرين فكرة عن عمله بإلقاء بعض الضوء حول البدايات التي قادته إلى هذه المحطة وأنتجت هذه الحصيلة من المؤلفات والمقالات. فهو ابن المدرسة العمومية، درس بمدينة الجديدة خلال ستينيات القرن الماضي، حينها كانت الدراسة في غالبيتها بالفرنسية، سواء من حيث مواد التدريس أو المدرسين، وكانت الثقافة الفرنسية بصفة عامة هي السائدة بالمدينة عن طريق الصحافة والسينما والمسرح ومختلف الأنشطة. وصادف الحال أن تعرّف على الكاتب المغربي، فؤاد العروي، الأصغر منه سنا، وكان يدرس بمدرسة البعثة الفرنسية بالجديدة. يقول المحاضر: “كنا نلتقي لتبادل المجلات المصورة، وبما أن فرنسيته كانت أحسن بكثير مما أدرسه، فقد رافقته وأصبحت أستعين به لتحسين مستواي في اللغة الفرنسية”. بعد مرحلة الجديدة انتقل إلى مدينة الدار البيضاء للحصول على الباكلوريا بثانوية الإمام مالك، التي كانت تعتبر قلعة معرفية، وهناك بدأ الاهتمام بالكتابة، حيث نشر قصصا بجريدة العلم، والتي كان بعض زملائه من تلاميذ الثانوية ينشرون بها كذلك.
سيأتي التحول كما يقول في بداية التسعينيات، حينما، أنهى دراسته العليا في الصحافة، فطرح على نفسه سؤالا حول اختيار نوع الكتابة التي قد تكون مفيدة للقارئ أكثر مما تعبر عنه القصة التي كان كتابها بالمغرب كثيرون، بينما لا يوجد بينهم سوى ثلة قليلة ممن تحظى باهتمام القارئ المغربي. حينها فكر أن يتناول موضوعا فكريا من شأنه أن يحدث أثرا، ويساهم في نشر معرفة عملية يمكن توظيفها في خدمة الجميع. وفكرة تغيير الاتجاه الفكري جاءت أيضا متزامنة مع ظروف أخرى، منها اطلاعه على نداء العلامة محمد المنوني الذي ألقى محاضرة بالمسرح البلدي للمدينة نادى من خلالها بالاهتمام بتاريخ الجديدة وتاريخ منطقة دكالة، مقترحا إنشاء مكتبة توثيقية للبحث في الموضوع.
العنصر الثاني والحاسم في التحول، يقول اجماهري، يكمن في مشاركته في ورشة “الكتابة والجهة” التي نظمها السوسيولوجي عبد الكبير الخطيبي سنة 1990 بالجديدة، في زمن قبل أن تصبح الجهة مكونا مؤسساتيا في التنظيم الإداري بالمغرب مع دستور 2011. كان اجماهري حينها يهيئ دبلوم الدراسات العليا في الصحافة. حضر هذه الورشة الأستاذ فريد الزاهي الذي سيصبح، فيما بعد، مديرا للمعهد الجامعي للبحث العلمي. وفي نهاية الورشة كلف ذ. عبد الكبير الخطيبي المصطفى اجماهري ومراد الخطيبي بإنجاز ببليوغرافيا توثيقية عن مدينة الجديدة. وقد عكف اجماهري أياما بالمكتبة الوطنية بالرباط وبمركز لاسورس، ومكتبة الغرفة التجارية بالدار البيضاء من أجل إنجاز هذا العمل الذي كان كتابه الأول في سلسلة “دفاتر الجديدة”.
ومنذ ذلك الحين لم ينقطع اتصاله بعبد الكبير الخطيبي، خاصة وأن مكتب هذا الأخير كمدير للمعهد الجامعي للبحث العلمي كان مجاورا للمعهد العالي للصحافة حيث يهيئ اجماهري أطروحته. وقد كان من حسن حظه، كما يقول، أنه التقى بباحثين فرنسيين لهما ارتباط بالجديدة وبالمغرب ساعداه في مسيرته بالتأطير والنصيحة والتوجيه، وهما غي مارتيني، أستاذ التاريخ، والمؤرخ المعروف، فقد كتب “تاريخ المغرب” مع آخرين باللغة الفرنسية وكان مقررا بقسم الباكلوريا حتى بداية السبعينيات، ثم الأستاذة نيلسيا دولانوي، أستاذة التاريخ بجامعة باريس العاشرة، وهي من أسرة قديمة بالجديدة، كانت جدتها طبيبة بالمدينة ابتداء من سنة 1913، ووالدها الطبيب اللبرالي غي دولانوي. هذا المكون الثلاثي، يضيف المحاضر: “استفدت منه كثيرا، وهو من ساعدني على الانطلاقة”.
ومن ميزات مسار هذا الباحث، التواضع العلمي الذي أبان عنه، حيث جعل من مشروعة وسيلة للمعرفة قادته للتفتح على باحثين مغاربة وأجانب بالنسبة للمواضيع الكثيرة التي تناولها في كتبه (نساء بالجديدة، الصحة، الفلاحون الأجانب، سيرة مناضل نقابي، القنصليات الأجنبية، مرسى الجديدة، المقاومون،..). فقد استعان في إنجازها بمؤطرين وجامعيين من بينهم: محمد الناجي، فؤاد العروي، الراحلة فاطمة المرنيسي، السوسيولوجي غريغوري لازريف، الدكتور مصطفى أخميس، الصحفي بيرونسيل هوغوز وغيرهم. فالعمل إن كان يبدو فرديا على مستوى البحث والطبع والنشر، فهو يتضمن شقا جماعيا بإشراك أساتذة وباحثين آخرين في التشاور والمراجعة وإغناء المعلومات.
أما التحول من الكتابة بالعربية إلى استعمال الفرنسية في كتابة المدينة، فيرجعه المحاضر إلى مجموعة من الأسباب المنطقية : فهو مزدوج اللغة، وقد اعتمد في بدايته على مؤطرين ثلاثة، الخطيبي ومارتيني ودولانوي الذين يستخدمون هذه اللغة. ثم إن مادة الاشتغال المتاحة في الأرشيف وفي الكتب الصادرة إبان الحماية هي باللغة الفرنسية. عكس ذلك لا يوجد كتاب خلال فترة الاستعمار، وحتى مع الاستقلال إلى حدود الثمانينيات، يتناول تاريخ الجديدة بالعربية. ولهذا يوضح المحاضر: “لم يكن بمستطاعي أن أضيف عبئا إضافيا، بصفتي باحثا متطوعا، للقيام بعملية الترجمة إلى العربية. كما أفادتني الكتابة بالفرنسية من ناحية أخرى، في توسيع قاعدة القراء، فبالإضافة إلى القراء المغاربة، هناك أجانب يهتمون بتاريخ الجديدة والمغرب، نظرا للعلاقة التي ربطتهم بالبلد، وهو الارتباط الذي ورثه حفدتهم”. فهذه السلسلة إذن استجابت وتستجيب لحاجة القراء، وتلبي رغبتهم في معرفة خاصة بحيز جغرافي معين”. ويؤكد المحاضر على أن حاجة هؤلاء القراء هي التي أدت إلى استمرار سلسلة دفاتر الجديدة إلى ثلاثين سنة ومازالت، حيث بلغ عددها الأخير المؤلف الرابع والعشرون.
أما سبب تسمية السلسلة بوسم “دفاتر الجديدة”، فجاء عملا بنصيحة عبد الكبير الخطيبي التي تقول إن الكتابة لكي تكون مؤثرة ولها صدى، ينبغي أن تكون في إطار مشروع، لإحداث تراكم والاستفادة من التجربة الماضية، لأن ذلك من شأنه أن يجعل الكاتب يخلق جمهوره الخاص”. ومن بين الجمهور القارئ هناك أيضا باحثون في مجال السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا وغيرهم يحتاجون لمعلومات لدراسة تطور المدينة وعقلية سكانها. كما أن الكتابة باللغة الفرنسية في هذا المجال توسع قاعدة القراء، مادام هذا العمل تطوعيا يعتمد على التمويل الذاتي. كما هناك كتابات في السلسلة جاءت بطلب من شخصيات، مثل الكتابة عن تاريخ ثانوية ابن خلدون، أو كتابة السيرة الذاتية لمناضل نقابي، أو لمقاوم.
البعد السوسيولوجي في كتابات اجماهري
يعتبر هذا النوع من الكتابة في نظر البعض كتابات في التاريخ المحلي، وفي نظر آخرين دراسات سوسيولوجية أو تقترب منها. أما في الغرب فيسمونها الدراسات الثقافية. هذه الكتابات لدى ذ. اجماهري تستفيد من بعض الأدوات التي يستعملها السوسيولوجي، مثل التقصي الميداني والمقابلة الشخصية. وهي أيضا أدوات مستعملة في الدراسات الإعلامية. كمثال عن ذلك الكتابة عن المعمرين، نمط عيشهم، ومختلف الدراسات عن المجموعات البشرية، ودراسة العقليات، كما دراسة الأقليات.
ويضيف المحاضر أن كتاباته تؤدي خدمة عمومية لمن يريد التعرف على المدينة وساكنتها المخضرمة، بحيث يجد القارئ مادة متوفرة تم التأسيس لها من فراغ بجمع شذرات متفرقة. لكن هذا العمل التوثيقي سواء بالنسبة إليه أو لغيره، بحسب المحاضر، أصبح يجد منافسا له يكمن في وسائط التواصل الاجتماعي، التي تنشر معطيات عن المدن دون تمحيص، ولا تستند إلى وثائق تثبت صحة ما ينشر. فنظرا لسهولة تلقيها لدى الجمهور، فإنها تنتشر بسرعة ويتقبلها الناس. وكثيرا ما تُروج معطيات تتضمن تحريفا للمعلومات التاريخية المضبوطة. ولسهولة تلقي هذه المعطيات بالوسائط الإلكترونية فإنها قد تنسف عمل الباحث الذي يبذل جهدا مضنيا في التنقيب والمعاينة. حيث تكون الإشاعة انطلقت، ويصعب تداركها، وهو ما يطلق عليه ثقافة القطيع. ونبه المتحدث الطلبة المقبلين على إنجاز البحوث إلى ضرورة الاحتياط والحذر في تقبل المعلومة المنشورة على وسائط التواصل قبل التأكد من صحتها ومطابقتها للواقع.
وقد اختتم اللقاء بحصة مناقشة مع الحاضرين، تم في نهايته منح ذرع التقدير إلى المحاضر من طرف عميد الكلية الدكتور عبد القادر سبيل.