واقعنا بين العنصريّة وعدم الإحساس بالمسؤوليّة
السفير 24 | محمد هرار
تعكس استطلاعات الرأي هنا وهناك، واقع الدول الغربيّة عموما، وتحكي لنا الكثير عنه وتعريه بشكل واضح يصل أحيانا درجة الغثيان. فقد تحمّلت هذه الدّول استيعاب ملايين النّاس من أبناء الجاليات العربية والإسلامية وسمحت لهم بالعيش على أراضيها… بدأ الأمر عاديّا، ثمّ ما لبث أن تعاظمَ الاستقطاب وتصاعدت وتيرة الكراهية والبغض والإيذاء للأجانب بشكل عام، وللمسلمين على وجه الخصوص. ما يعني أنّنا بتنا أمام تحديات جسيمة قد يكون سلوكنا أهمّ ما يكسرها أو يطغيها. فاليمين المتطرف في حالة انتعاش مستمر نتيجة ما يُحصي علينا من الأخطاء المتكررة وغير المبررة إطلاقا.. ومن هنا فإنّنا مطالبون ليس فقط بالانتباه وتغيير السلوك المردي، بل وأيضا ببذل الجهد الاستثنائيّ لمحو وإنساء السّلوك الشّاذ المتّبع من المُسيئين فينا. سواء كانت الإساءة مقصودة أم عفويّة، فإنّ المراقب لا يقبل منّا بتكبّره وعناده وتطرّفه الأعذار والتفسيرات.
نحن اليوم أمام تحديات حقيقيّة ومهمّة، تهدف إلى إيقاف عجلة اليمين المتطرف والتخفيض من منسوب عنصريّته. لا بدّ أن نجعل التعايش الإيجابي الذي يعني الإضافة في المجتمع ثقافة مقبولة، يفرض قبولَها نتائجُها… لا بدّ أن نُشعر الآخر بأنّ هذا الوطن وطننا كما هو وطنه، وأنّ ذلك لا يكون إلّا بالغيرة عليه وعدم الإفساد فيه وبالاجتهاد في عملِ ما ينمّيه ويرفع شأنه. لا بدّ أن نجتنب السلبيات في السّلوك العام وفي التواصل الاجتماعي، بل لا بدّ أن نكون مثالا أخلاقيّا يرنو الدنماركيّون الأصليّون إلى الاقتداء به والأخذ منه وعنه؛ فذلك واجبنا ولا شك. فديننا الحنيف يحث ولا شك على الصلاح والإصلاح والإعمار في الأرض. حتى إذا فعلنا ذلك كلّه فهِمنا الآخر المختلف الرافض ورجع على نفسه يقنعها؛ فبات ممكنا بناءُ الجسور، وتحقيق التواصل المفضي إلى التعارف الإيجابي الباني للمجتمع المتنوّع، وإلى التنافس الخيري المنمّي للبلاد. لا بدّ كذلك من الانخراط في الشّأن السياسي الذي لا تكون الحياة والمشاركة إلّا به. دون أن نغفل عن جانب الفنون والثقافة الرّصينة.. ولن نتمكن من ذلك إلا بأخذ زمام المبادرة. إذ هي وسيلة من وسائل التواصل التي لا غنى لنا ولا للآخر عنها لمعرفة بعضنا البعض عن قرب. فبالتّواصل والحديث المباشر نقضي على الخوف والتنافر ونستبعد استعمال الألفاظ المفرّقة “نحن وهم”. إنها مسؤوليتنا نحن، ضيوفا أو مقيمين وأصحاب البيت المضيفين. تقع بحقّ على عواتقنا جميعا. تدعونا جميعا إلى العمل الإيجابي من أجل مجتمع متناغم وواقع أفضل لأجيال متزاوجة الهويّة.
إنّها مسؤوليتنا نحن في تغيير المشهد السياسيّ الذي بات يسيطر عليه في الغرب حكومات اليمين المتطرف. ما كان ليحصل في الدنمارك مثلا، حزب الشعب الدنماركي على 21,1 في المائة من نسبة الأصوات، لولا خلل التواصل وشيوع الأفكار المسبّقة تدعمها أعمال المسيئين منّا وتقاعسنا عن المشاركة في الشّأن السياسي لشريان الحياة. وكذلك الشّأن في سويسرا، حيث تخطى حزب الشعب السويسري ما نسبته 29,4 في المائة. وفي النمسا حصد حزب الحريّة ما نسبته 26 في المائة من مجموع الأصوات. وفي فنلندا حيث حصل الفنلنديّون الحقيقون ما قيمته من الأصوات 17,7 في المائة. وأمّا في إيطاليا؛ فقد حصلت الجبهة الإيطالية على 17,4 في المائة. وفي النرويج حصل حزب التقدم النرويجي على 15,2 في المائة. وفي بلاد الأنوار والأخوّة والعدالة الاجتماعية والمساواة، حصلت الجبهة الوطنية الفرنسية على 13,2 في المائة. وفي هولندا حزب الشعب للحريّة والديمقراطية يحصل على 13.1 في المائة. وأمّا البديل لأجل ألمانيا فقد حصل بدوره على 12,6 في المائة. حصيلة تلوى أخرى تثقل كاهل الوافد الأجنبي المتقوقع، كما شجعت اليمين المتطرف وفتحت شهيته في شبه انتزاع الأغلية التقليدية للحزب الحاكم في منطقة بافاليا بأمانيا، والحبل على الجرار كما يقال.
هل يدرك المتابع للشأن السياسي وشئون الأحزاب، أنّ الصراعاتِ الحزبيّة في دول القارّة العجوز، أو على الأقل هنا في اسكندنافيا، لم تعد بتاتا تلك الخلافات الجوهريّة التقليدية القديمة بين أحزاب اليمين واليسار، كما كانت عليه من قبل؟ كقضيّة الضرائب وتشعّباتها، أو الحديث عن نظام الرفاهيّة ومصادر التمويل له، والتعليم والصحّة والعناية بالمسنّين وقضايا البيئة؟.. لقد بات كلّ ذلك أمرا ثانويّا، وأصبحت الحملات الانتخابيّة وبرامجها متعلقة بأبعاد جديدة وتجاذبات غير معتادة، وصفت من قبل المحللين بأنها صراع “الهويّة” بين قيم الحريّة والليبراليّة من جهة، وبين القوميّة والدين وسطوة القانون والنظام العام من جهة أخرى. حيث تحوّلت مسائل مثل القيم الغربيّة، باحثة في التعريفات: من هو الفرنسيّ أو الهولنديّ أو الدنماركيّ..!؟. وتعدّ إشكاليات الهجرة واللجوء والجريمة المتنامية بين صفوف أجيال الجالية العربيّة والإسلامية، وطرق مناهضتها والعقاب، وسحب الجنسيّة الغربية، ودور {المساجد السلبي} في المجتمع الغربي وما يشكل من تحديّات، وحظر المدارس العربيّة وإغلاقها لتورط إطارها في الفساد الماليّ والإداريّ، وموجة اللاجئين بشكل عام، والحجاب والنّقاب، وقضية المصافحة بين الرجال والنساء وتربيّة الأولاد بعيدا عن قيم المجتمع المضيف، أهمّ ميدان ينشط فيه المتبارزون السياسيّون، اقتداء باليمين المتطرّف صاحب المبادرة.
باختصار، لا يزال البعبع الإسلامي هو الفزّاعة التي يتكّئ عليها دعاة العنصريّة وحماة الكراهيّة.. فقد تحولت هذه الظواهر إلى هموم الشعب الغربيّ، فوُظّفت في الحملات والبرامج الانتخابية للأحزاب بشكل عام؛ فكان لليمين المتطرف الحاقد الحظّ الأوفر في إقناع السكّان الأصليّين في القارة الأوروبية عموما، حيث أسّسوا فيهم خوفا من هذا الوافد عليهم من البلاد الإسلاميّة، فرأوه خطرا يتهدّد وجودهم، أو رأوا وجودهم رهين عدم وجود.
لقد تمكن اليمين المتطرف العنصري الكاره للمسلمين والرافض لوجودهم في القارّة العجوز من فرض أجندته على الأحزاب السياسيّة التقليديّة التي عرفت بالتضامن مع الأجانب من قبل، حتى دفعها إلى تبنّي خطابه واتّباع برامجه، إلّا ما كان من بعض الاستثناءات الطفيفة. وبات حصد أصوات الناخبين رهين توجّهه.
ومن هنا فلا بدّ لنا كجاليات مغتربة من الاستيقاظ من سباتنا العميق، والنّظر في سلوكنا لتغييره على الفور، وإلّا، فالقادم لا سمح الله أعظم وأبشع.
هي وجهة نظر مبنية على المتابعة للمشهد السياسي، قد يتفق معي فيها البعض، وقد يخالفني فيها من يختلف.