في الواجهةكتاب السفير

صحافيون برتبـة “ضباط شرطة قضائية”

isjc

* بقلم: عزيز لعويسي

ونحن نوجه البوصلة نحو قضية الراحل بالفقيه، ليس الهدف النبش في تضاريس الواقعة المتشابكة، أو إعادة تفكيك بنية ما جــرى ، أو حتى التيهان في فنجان الفرضيات والاحتمالات، ولكن من باب احترام سلطة القضاء الذي لا يمكن لأي طرف أن ينوب عنه، ولا يمكن لأية جهة أن تقوم مقامه، وإثارتنا لهذا الموضوع، تحكمت فيه الرغبة في مقاربة طريقة تعامل بعض الصحافة الإلكترونية بالأساس مع الخبر الذي انتشر في الوسط الإعلامي ومواقع التواصل الاجتماعي كما تنتشر النار في الهشيم.

وهي طريقة حضرت فيها بعض مشاهد اللخبطة والارتباك ، كما حضرت فيها بعض صور الخروج عن المهنية وأخلاقياتها، لا على مستوى الحالة الصحية للراحل، حيث تضاربت الأخبار حول وفاته وحياته، كما تضاربت الأخبار بين “الانتحار” و”القتل”، مما أدخل المتلقي في حالة من الغموض والضبابية والإبهام، خاصة في غياب الخبر الرسمي، وما زاد طين الارتباك بلة، هو الهرولة نحو نشر بعض التصريحات الأخيرة للراحل، بما فيها الرسالة التي أعلن فيها عن خبـر اعتزاله للعمل السياسي، وفي هذا الإطار، نشير إلى أنه وفي قضايا حساسة من هذا القبيل، لايـهم من يبادر إلى السبق الصحفي، بل من يضع المتلقي في صلب المعلومة الصحيحة، التي لا يمكن نقلها إلا عبر المصادر الموثوق بها، من باب المهنية واحترام أخلاقيات المهنة ومراعاة لحق المتلقي في الوصول إلى المعلومة الصحيحة.

أما فيما يتعلق بموضوع الانتحار أو القتل، فإذا كانت بعض المواقع والجرائد الإلكترونية قد تاهت بين الفرضيتين، فهذا التيهان لايمكن القبول به مهنيا وقانونيا، لأن الصحافي هو “ناقل للخبر”، وليس “ضابط شرطة قضائية” يضطلع بمهام وصلاحيات التثبت من وقوع الجرائم والبحث عن الأدلة الجنايئة وإجراء المعاينات الضرورية وحجز أدوات الجرائم والاستماع إلى الشهود وإيقاف المشتبه فيهم وغير ذلك من المهام والصلاحيات، التي تتوقف في شموليتها عند حدود الأبحاث والتحريات التي تتم تحت إشراف النيابة العامة، ليبقى القضاء في آخر المطاف، هو السلطة الوحيدة التي تمتلك سلطة تكييف الجرائم وإدانة الأشخاص الذين يشتبه في تورطهم فيها.

وحتى القضاء نفسه، لايمكنه أن يحسم “مبكرا “في مسألتي الانتحار أو القتل، ما لم يضع بين يديـه، ما توصلت إليه الضابطة القضائية، من أدلة ومعطيات وقرائن، بناء عليها يمكن إثبات فرضية الانتحار أو تزكية طرح القتل، وبالمقابل نجد بعض الصحافة تسارعت لنقل خبـر الانتحار، وأخرى مالت إلى كفة القتل عبـر الإشارة إلى خبـر “تعرض المعني بالأمر إلى طلق ناري”، بينما الصواب، كان يقتضي انتظار صدور بلاغ الوكيل العام للملك حول المعطيات الأولية للنازلـة، ونــرى أنه كان من الأجدر عدم هدر الزمن في الخوض في أمور جنائية صرفة من اختصاص الشرطة القضائية والقضاء، والانخراط في فتح نقاشات رصينـة، بشأن ما للحادث المؤلم، من تداعيات على المسلسل الانتخابي والبناء الديمقراطي وعلى واقع الممارسة الحزبية والسياسية برمتها، بشكل يقطع بشكل لارجعة فيه، مع ممارسات من هذا القبيل، والتي لايمكن القبول بها، اعتبارا للمكانة التي بات يضطلع بها المغرب في محيطه الإقليمي، وقياسا لحجم التحديات المرتبطة بالوحدة الترابية، وقياسا للرهانات التنمويــة المطروحة التي تفــرض التعبئة الجماعية ووحدة الصـف.

ما حدث في تغطية الواقعة من انزلاقات مهنية وقانونية، هو امتداد للكثير من الصحافيين الذين يدفعهم هاجس وهـوس السبق الصحفي أو الإثارة، سعيـا وراء اقتناص أكبر قدر ممكن من نسب المشاهدات والمتابعات، دون الاحتكام إلى ما يؤطر المهنة من ضوابط مهنية وأخلاقية، والاحتراز من الوقوع في بعض المنزلقات القانونية، وهنا نشير إلى أن بعض الصحافيين وبدل الاكتفاء بنقـل الخبــر، يقودهم فضولهم الإعلامي إلى تقمص دور “ضباط الشرطة القضائية”، فيبادرون إلى استدعاء الضحايا والمشتبه فيهم، ويخضعونهم إلى الاستجواب، حتى قبل أن تستجوبهم الشرطة القضائية، والبعض منهم وصلت به الحماسة إلى حد استجواب مشتبه فيهما في قضية قتل والبحث معهما حول ظروف وملابسات الواقعة عبر المباشـر، بل ومرافقتهما إلى مركز الشرطة لتسليم أنفسهما، مـع توثيق ذلك بالصوت والصــورة، بكل ما لذلك من مساس بالحق في الصورة ومن تشهيــر وركوب على مآسي المعنيين بالأمر وتعريض حياتهما إلى الخطــر، وتأثير على مشاعر أسرة الضحية القتيل، وضرب لعمل الشرطة في الصميم، وتكريس للإحســاس بانعدام الأمن .

وربما آخر المشاهد، ارتبطت بقضية ما بات يعرف بقضية “النقط مقابل الجنس”، حيث تم استدعاء المشتبه في تورطه في القضية من قبل أحد المنابر الإعلامية، وتم الشــروع في البحث والتحري معه حول الأفعال المنسوبة إليه على المباشــر، وتم تمكينه من فرص الدفاع عن نفسه وإثبـات بــراءته أمام المشاهدين والمتتبعيـن، دون مراعاة لقرينة البـراءة ولا لسرية الأبحاث القضائية ولا لحقـوق الضحايا المفترضين، بكل ما لذلك من تشهيــر وركوب على المأسـاة سعيا وراء الإثارة أو “البوز”، وتدخل واضح في مهام واختصاصات الشرطة القضائية المعنية بالأبحاث والتحريات الميدانية وجمع الأدلة الرقمية، بـل والخوض في تفاصيل قضية مفتوحة أمام القضــاء، كان يفترض التعامل معها بنــوع من الحياد، لحساسيتها وتداعياتها المتعددة الزوايا، إلى حيــن أن يقول القضاء كلمته فيها، وحينها لامانع من الخوض في القضية مادامت الأدلة والمعطيات والقرائن متاحة للجميـع.

هي إذن ممارسات من ضمن أخرى امتدت حتى إلى عدد من القاصرات والقاصرين الذين لم يسلموا من التصويـر والاستجواب دون مراعاة لا لقصر سنهم و لا لمحدودية مستواهم الإدراكي، تضعنا أما صحافيين يتحولون بوعي أو بدونه، إلى “ضباط شرطة قضائية” لا تنقصهم سـوى المحاضر والتقارير والأصفــاد، ومن باب التوضيح، نشير إلى أن الصحافي من حقه الوصول إلى المعلومة التي تحقق السبـق الصحفي، لكن ليس من حقه خرق مقتضيات قانون المسطرة الجنائية وليس من حقه الترامي على شرطة قضائية نظم القانون مهامها واختصاصاتها، كما ليس من حقه استجواب أشخاص موضوع أبحاث قضائية ضحايا كانوا أو مشتبه فيهم، وإذا كان “الخبر” هو أساس الصحافة وسر وجودها، فيفترض الحصول عليه عبر القنوات الرسمية و المصادر الموثوقـة ، احتراما للمتلقي وأحقيته في الحصول على المعلومة الصحيحة.

وفي هذا الإطار، فإذا كان الصحافي الذي يقف وراء ممارسات من هذا القبيـل، يتحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية كاملة من باب “لايعذر أحد بجهله للقانون”، فنرى أن ذات المسؤولية يتحملها بدرجات ومستويات مختلفة بعـض مدراء النشر ورؤساء التحريـر الذين وبدل المراقبة والتوجيه والتأطيـر والحرص على المهنية وأخلاقيات صاحبة الجلالة، يفرضون على الصحافيين إنتاج قدر معين من المواد والمحتويات في اليوم، في إطار المردودية، دون اعتبــار لجودة وقيمة ما ينتج، وفي ظل هذا الواقع، فالصحافي، يلجأ إلى أبسط الطـرق المتاحة لتقديم أخبـار أو عرض وقائــع أو حتى فضائح، يحقق عبرها “المردودية” المطلوبـة، ولا تهمه المهنية ولا الأخلاق ولا الجودة ولا حتى احترام أذواق المتلقين وحقهم في المعلومات الصحيحة، والمهم أن “يكون العام زين” كما يقال، وتتحرك الناعورة ويكون الرواج ويتحرك عداد المشاهدات والمتابعات.

ولا يمكن حصر المسؤولية في حدود بعض مدراء النشر ورؤساء التحرير والصحافيين الذيــن يشتغلون تحت إمرتهم، بل يمكن توسيــع الدائرة لتشمل الأجهــزة الرقابية المرتبطة بالصحافة والنشـر، وفي طليعتها “المجلس الوطني للصحافة” الذي لابد أن يتدخل لكبح جماح صناع العبث والتفاهة والسخافة باسم الصحافة. هي إذن مسؤولية فردية وجماعية، يتحملها بمستويات مختلفة ، المجلس الوطني للصحافة والتنظيمات النقابية والمهنية ومدراء النشر ورؤساء التحرير والصحافيين، وفي هذا الصدد، لا يمكن الارتقاء بواقع الممارسة المهنية، إلا بالتقيـد بضوابط المهنة وأخلاقياتها، والرهان على “التكوين المستمر” من أجل كسب رهان صحافة إلكترونية “مهنية” و”أخلاقية” قـادرة على الانخراط في صلب ما ينتظره المغرب من رهانات تنموية وما يواجهه من تحديات خارجية، موازاة مع أدوارها المحـورية في التأطيـر والتوعية والتحسيس والتثقيف والارتقــاء بمستويات القيم والأذواق، حينها يمكن للصحافيين أو بعضهم على الأصــح، أن يستوعبوا أن “الصحافي” ليس بضابط شرطة قضائية ولا بقاض أو محـام، فلكل طرف مجاله وعالمه، وللصحافي بــلاط اسمه “صاحبة الجلالة”.

ونختم بتحية كل الصحافيين المهنيين الذين يماسون مهنة الصحافة بوعـي وإدراك واجتهاد، وبرقـي وحـس مواطــن، وبالتنويه بكل المنابر الإعلامية التي تشتغل في إطار ضوابط المهنة وأخلاقياتها، وتجتهد في تقديم محتويات إعلامية رصينـة، بعيدا عن جائحة العبث، رغم قلـة ذات اليد أحيانا، وإذا خصصنا المقال لوضع الصحافة تحت المجهر، فليس الهدف ، إشهـار أسلحة القصف أو العتاب أو الإدانة أو توزيـع صكوك الاتهام، لأننـا لسنا بقضـاة ولا بمحامين ولا حتى بضباط شرطة قضائية، والهـدف الذي أسال مـداد القلـم، هو أحقيتنا المشروعة في إعـلام “مهني” و”أخلاقي” يجعل من الصحافة، مــرآة عاكسة لمغرب، نعترف جميعا أنه “ليس كمغـرب الأمس”.

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى