في الواجهةكتاب السفير

مساهمة المثقف في تأصيل مفهوم وقيمة التسامح

le patrice

د. يسين العمري

تقديم:

أفتتح هذا المقال بمقولة لتركي الحمد المحلل سياسي، والروائي والصحفي السعودي الذي ذكر أنّ: “التاريخ يحكمه التنافس، ودائما البقاء للأفضل، وليس من العدل أن يتساوى العاملون والقاعدون حقيقة الأمر، مهما كان حبنا للقاعدين، وبغضنا للعاملين”.

إن من أخطر ما ابتليت به البشرية قديما وحديثا هو التعصب للرأي وللحزب وللدين وللقبيلة وللعرق والمذهب واللغة والوطن… الخ، وقد أدى ذلك التعصب إلى نشوب حروب لا أول لها ولا آخر، وأزهقت بسببه أرواح ضحايا كثر، حيث أن التعصب ينفي قيم الحوار والتواصل مع الآخر والتسامح مع أفكاره.

والتسامح كما يراه جون ستيوارت ميل يمتنع معه الاعتقاد في حقيقة مطلقة، كما أنه يعني عند جون لوك أنّه ليس لأيّ إنسان السلطة في أن يفرض على إنسان آخر ما يجب أن يؤمن به أو أن يفعله لأجل نجاة روحه هو. كما يرى واسيني الأعرج أن التسامح يُقرِّب الخلافات مهما كانت الخسائر، ويخضعها للعقل وسعادة الإنسان، واللاتسامح هو سلاح الجاهل حينما يتم تغييب العقل.
وفي تقديري فالتسامح هو فن تدبير الخلاف والاختلاف، حيث لا يعني بالضرورة أن تقبل كل ما يقوله ويفعله الآخر، ولكن تتفهمه كما هو، وتتقبل اختياراته، وتتعايش مع اختلافه معك، بل وتدافع عن حقّه في الاختلاف، وأستشهد في هذا الصدد بمقولة فولتير المعروفة “قد أختلف معك في الرأي، لكني مستعد لأدفع حياتي ثمنا من أجل أن تدلي برأيك”.

ويمكن أن نستنتج مما سبق أن الاعتقاد في امتلاك الحقيقة من جهة والرغبة في فرضها على الآخر من جهة أخرى، يعني أن كلّ من لا يسير في فلك اعتقادنا، ولا يتقاسمه معنا، فهو عدو أو خصم على الأقل، وفي كلتا الحالتين تكون المواجهة حتمية.

والراجح لديّ أن المواجهة ليست مرعبة إذا كانت من باب المناقشة والجدال ومقارعة الفكرة بالفكرة والحجّة بالحجّة والمنطق بالمنطق وفق قواعد احترام الآخر والتسامح مع أفكاره (مهما بدت لنا شاذة وغريبة ومتضاربة مع أفكارنا)، ويبتدئ التسامح من حسن مخاطبة من يخالفنا الرّأي ورقيّ التواصل معه وفق أخلاقيات التخاطب وآداب الحوار والتوقير اللازم للمخاطَب، وينتهي عند وجود هامش معيّن من ترك الحرية للآخر يسمح به كلا الطّرفان، بحيث يتنازل كلّ منهما عن القدر المسموح به من تلك الحرية، مع بقاء المبدأ الأصلي دون مساس به، والمقصود هنا بالمبدأ هو عدم المسّ بالنظام العامّ، فلا يمكن السماح بحرية أو تسامح يمسّان المجتمع في أمنه وصحته وسكينته.

ولكن الخطير أنّ ما نلحظه حاليا في جل المجتمعات متحضرها ومتخلفها أنه يتم تدبير الاختلاف بمنطق السحق والمحق، وبأسلوب ومنهج عنيفين. من هنا كان لا بد للمفكرين والمثقفين باعتبارهم رواد الأمم، وقادتها ثقافيا وفكريا ومعرفيا أن يرفعوا لواء الدفاع عن التسامح كأسلوب للعيش المشترك وتدبير الاختلافات (السياسية، الاجتماعية، الدينية، المذهبية، العرقية، اللغوية، الثقافية….).

وبخصوص المقولة عن التاريخ التي ارتأيت أن أستهل بها مقالي هذا، فهي في تقديري ذات مغزى عميق، حيث أن التاريخ لا يذكر إلا من ينجز وماذا أنجز، وبالتالي فكل مفكر أو عالم أو مثقف ومهما كانت درجته وحظوته عند الناس… فلن يذكره التاريخ إلا بقدر تأثيره في الأحداث في مكانه وفي زمانه وكذلك الإرث الذي تركه للأجيال المتعاقبة.

لذلك نرى ونسمع عن أناس يشار إليهم بالبنان مقابل آخرين باتوا في طي النسيان، ومن هنا فبمجرد أن نذكر مصطلح التسامح، نجد أنفسنا مباشرة في كنف مفكرين من عصر العقلانية أعطيا الشيء الكثير في خدمة هذا المفهوم وهذه القيمة والفضيلة عبر تكريس جزء من حياتهم الأدبية والفلسفية بل والعملية التطبيقية لها. نتحدث هنا عن جون لوك وعن فولتير، لاسيما أن التسامح أصبح سمة عامة في الفكر الغربي منذ النصف الثاني للقرن السابع عشر بفضل هذين المفكرين، لأنّ كلاهما له “رسالة في التسامح”، و كلاهما من رواد عصر العقل، وكانت لكتابتهما في الموضوع السبق في التأسيس للمفهوم.

وفي سياق حديثنا عن الفكر و أهله، فحسب رؤية إدوارد سعيد لمصطلح المثقف فإن هذا الأخير ليس داعية مُسَالَمة ولا داعية اتفاق في الآراء، ولكنه شخص يخاطر بكيانه كله باتخاذ موقفه الحساس، وهو موقف الإصرار على رفض “الصيغ السهلة”، والأقوال الجاهزة المبتذلة، أو التأكيدات المهذّبة القائمة على المصالحات اللبقة والاتفاق مع كل ما يقوله ذوو الأفكار التقليدية، ولا يقتصر رفض المثقف على الرفض السلبي، بل يتضمن الاستعداد للإعلان عن رفضه على الملأ. وهذا يعني أن مهمة المثقف تتطلب اليقظة والانتباه على الدوام، ورفض الانسياق وراء أنصاف الحقائق والأفكار الشائعة باستمرار، ومن شأن هذا أن يستلزم واقعية مطردة ثابتة، وطاقة عقلانية فائقة، وكفاحا معقدا للحفاظ على التوازن بين مشكلات الذات عن الفرد (في إحدى الكفتين) ومتطلبات النشر والإفصاح عن الرأي علنا (في الكفة الأخرى)، وهو الذي يجعل منه جهدا دائبا متواصلا، لا يكتمل قط، ولا بد أن تعيبه عيوب.

ومن هذا التعريف نستشفّ أنّ دور المثقف فيما يخصّ التسامح، ليس دور وسيط بين متخاصمين، يحرص على إرضائهما معاً، أو يستجلب تأييدهما له من خلال معسول الكلام أو التهذّب أو التكلّف، بل دوره الدعوة إلى التسامح في إطار قول الحقيقة والمكاشفة والمصارحة، إذ أنّ التسامح ليس شيكاً على بياض، ولا يعني ترك من شاء يعمل ما شاء، فكما قلت أعلاه، إنّما التسامح مع الآخر يكون باقتطاع جزء من حريتي لينعم هو بحريته، وعليه هو كذلك فعل المثل لنتعايش بشكل مشترك، وهذا قطعاً لا يعني أن ألغي أفكاري وثقافتي وهويتي، ولا أن يفعل هو ذلك كذلك.

وسأضرب مثالاً بمن يدعون للإفطار علناً في شهر رمضان، بما أننّا في شهر الغفران حالياً، هؤلاء وإن كانوا معدودين على رؤوس الأصابع، فينبغي التسليم لهم بحقّهم في الإفطار لأنّه لا إكراه في الدين، ولكن فليفطروا في منازلهم، أمّا تعمّد الإفطار أمام الناس فهذا أمر لا تسامح فيه، لأّنه يضرّ بالأمن الروحي للمجتمع، ويستفزّ مشاعر الصائمين، وهذه ليست دعوة لتطبيق قانون الغاب أو شرع اليد، إنّما إن رأى المواطن مثل هذا السلوك، فهناك سلطة في البلد يتمّ اللجوء إليها لتطبيق القانون، فتطبيق شرع اليد مُدان حتى دينياً، ويعرف في الفقه الإسلامي بالافتئات على وليّ الأمر، بمعنى ليس من حقّ أيّ احد التعرضّ لمواطن آخر بضرب أو تعنيف لفظي أو سلوكي أو معنوي أو جسدي تحت مسمّى نصرة الدّين أو العادات المجتمعية أو الأخلاق، فهذا من صميم دور واختصاص الدولة، وغير مقبول بل مجرّم أن يقوم الأفراد بهذا الدور، وهذا أيضاً من دور المثقفين أن يبيّنوه للناس.

وختاماً حيث أن المثقف يحتاج في عمله إلى قدر فائق من العقلانية، ونظرا لمساهمته في التنظير وصياغة الأفكار والمفاهيم والمعاني، وفي ظلّ هذا الزمن حيث ساد العنف في التعامل مع الآخر لفظيا وفكريا وتواصليا وفي كل المجالات، فعلى المثقف تحمّل مسؤوليته التاريخية، والانخراط في حملة تحسيسية وتوعوية للحثّ على التسامح في التعاملات اليومية بين الناس.

باحث في دراسات الدين والسياسة*

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى