سنة 2019 .. مشاهد عابرة

سنة ترحل أو تستعد للرحيل (2019)، وسنة أخرى تتأهب كالعروس في ليلة زفافها، لتحل بين ظهرانينا (2020) .. سنة تطوى وترحل في صمت .. وسنة جديدة تفتح على إيقاعات الشوق والأماني.. وبين الوداع القسري و الاستقبال الحتمي .. تفتح الصفحة الأولى في سجل جديد، لا أحد يتوقع ما سيضمن به من أحداث ومواقف ولحظات فرح ولحظات ألم وآهات .. بين السنة الراحلة والسنة الجديدة، نتقدم جميعا “سنة” أو “خطوة” في مضمار العمر، حاملين حزمة من الأماني والأمنيات، في أن تكون الأيام والأسابيع والشهور القادمة، حبلى بالخير والسعادة والرخاء، والصحة والسلام والهناء لكل شعوب العالم، في مشارق الأرض ومغاربها.. بين السنة الراحلة والسنة الجديدة، نقتنص هذا الحيز الزمني، لنستحضر أبرز ما ميز الساحة الوطنية، من مشاهد متعددة المستويات، يصعب إثارتها ومحاصرتها في مقال تتحكم فيه هواجس “الدقة” و”الإيجاز” و”الاختصار”، لكن سنكون مضطرين للتوقف عند أكثرها إثارة وتأثيرا ..
– زيارة تاريخية للبابا “فرانسيس”:
سنة 2019، انفردت عن سابقاتها، بزيارة بأبعاد ورسائل متعددة الزوايا، لقداسة بابا الفاتيكان “فرانسيس” للمغرب أواخر شهر مارس الماضي، توجت بتوقيع جلالة الملك محمد السادس رئيس لجنة القدس وقداسة البابا على “نداء القدس”، تلاه باللغة العربية الأمين العام للمجلس الأعلى”محمد يسف”، وباللغة الإيطالية “إدغار بينيا بارا” وكيل الشؤون العامة في أمانة سر دولة الفاتيكان، وهو إعلان تاريخي، تم التأكيد من خلال مضامينه على ” أهمية المحافظة على مدينة القدس الشريف، باعتبارها تراثا مشتركا للإنسانية، وبوصفها أرضا للقاء ورمزا للتعايش السلمي، بالنسبة لأتباع الديانات التوحيدية الثلاث، ومركزا لقيم الاحترام المتبادل والحوار”، والدعوة إلى “صيانة وتعزيز الطابع الخاص للقدس الشريف كمدينة متعددة الأديان إضافة إلى بعدها الروحي وهويتها الفريدة”، وقد عبر الطرفان من خلال وثيقة الإعلان المشترك، عن أملهما في أن “تكفل داخل المدينة المقدسة حرية الولوج إلى الأماكن المقدسة، لفائدة أتباع الديانات التوحيدية الثلاث، مع ضمان حقهم في أداء شعائرهم الخاصة فيها”.
زيارة تاريخية، أتت في سياقات إقليمية ودولية، ميزها تنامي العنف وارتفاع منسوب التطرف عبر العالم، وانتكاسة السلام بين العرب وإسرائيل، بعد الاعتراف “الترامبي” بالقدس كعاصمة لإسرائيل، دون اكتراث لمشاعر ملايين المسلمين عبر العالم، واستمرار معاناة الشعب الفلسطيني في ظل الغطرسة الإسرائيلية، دون إغفال ما يعيشه العالم من مشاهد التوتر والاضطراب والاضطهاد في عدد من المناطق، وأكدت هذه الزيارة مرة أخرى، على محورية “المملكة المغربية” كأرض للتلاقي والحوار والسلام والتسامح بين الأديان، يمكن الرهان عليها، لمد جسور التعاون والتضامن والتعاون بين العالمين المسيحي والإسلامي، في ظل موقع استراتيجي جذاب، يشكل حلقة وصل بين”أوربا” و”إفريقيا” و”آسيا” وتحديدا الشرق الأوسط.
– خطب ملكية بمضامين قوية :
السنة الراحلة أو على وشك الرحيل (2019)، تميزت عن سابقاتها، بخطب ملكية حملت مضامين ورسائل قوية، تقاطعت فيها مفردات الصراحة والمكاشفة والواقعية، وفق رؤية استشرافية للمستقبل، تحكم فيها هاجس تجاوز ما هو “كائن” بما يحمله من ضعف وهوان تنموي، إلى رسم معالم “مغرب ممكن” تتحقق فيه شروط “المسؤولية” و”الإقلاع الشامل”، والمنطلق كان بخطاب الذكرى العشرين لعيد العرش المجيد، الذي حمل مضامين قوية، لم تجد حرجا في مساءلة النهج التنموي القائم منذ سنوات، وما ترتب عنه من مشكلات وأعطاب تنموية، جعلت شرائح عريضة من المغاربة، بعيدين كل البعد عن قطار التنمية، وفق رؤية موضوعية جمعت بين “الصراحة” و”المكاشفة” و”الإرادة” في تخطي الكبوات، عبر الدعوة إلى بلورة “نموذج تنموي جديد” يعول عليه، لإعطاء نفس جديد للممارسة التنموية، بإعطاء جيل جديد من المخططات والبرامج التنموية، القادرة على التخفيف من حدة الفوارق الاجتماعية والتفاوتات المجالية، بشكل يسمح بالجواز الآمن نحو مرحلة جديدة قوامها “المسؤولية” و”الإقلاع الشامل”.
وكما كان متوقعا، فقد جاءت الخطب الملكية الموالية (خطاب الذكرى 66 لثورة الملك والشعب، خطاب الذكرى 44 للمسيرة الخضراء، خطاب افتتاح دورة البرلمان)، جاءت جميعها، متناغمة ومترابطة موضوعيا بخطاب الذكرى العشرين لعيد العرش المجيد، وكلها حددت الملامح الكبرى للمرحلة القادمة، وما تقتضيه من تعبئة جماعية ومن تضامن وتشارك وتعاضد، ومن إحساس بالمسؤولية واستحضار للمصلحة العامة، لتبقى الكرة الآن في مرمى “اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي” التي ستتحمل مسؤولية وطنية وتاريخية، في تشكيل المعالم الكبرى لنموذج تنموي جديد في أفق الصيف القادم، وهي مسؤولية جسيمة، تفرض على “اللجنة”، ليس فقط، التحلي بروح المسؤولية والتجرد والموضوعية والجرأة في “قول الحقيقة”، بل وأن تتملك القدرة على “عكس نبض المجتمع”، وهو نبض، وإن كان واضحا وضوح الشمس، فهو يقتضي ترك المكاتب المكيفة، والنزول إلى الميدان، والاستماع إلى السكان عن قرب، خاصة في المجالات الفقيرة والمعوزة، ومعاينة حجم الخصاص ودرجة المعاناة، وفق مقاربة تشاركية مندمجة، بشكل يسمح بصياغة وبلورة اختيارات/توجهات كبرى، نابعة من عمق الواقع، من شأنها أن تشكل دعامات “النموذج التنموي المرتقب”.
– تعديـل موسع لحكومة العثماني:
في سياق خطاب الذكرى العشرين لعيد العرش المجيد، كلف جلالة الملك محمد السادس، رئيس الحكومة بأن برفع لنظر جلالته-في أفق الدخول السياسي- “مقترحات لإغناء وتجديد مناصب المسؤولية الحكومية والإدارية، بكفاءات وطنية عالية المستوى، وذلك على أساس الكفاءة والاستحقاق”، وقد عكس هذا التكليف، رؤية ملكية متبصرة، ترمي إلى توفير أسباب نجاح المرحلة القادمة، بعقليات جديدة، قادرة على الارتقاء، بمستوى العمل، وعلى تحقيق التحول الجوهري الذي نريده، كما أكد جلالته في خطاب العرش الأخير.
وبعد مرحلة ترقب وانتظار، ميزتها نقاشات متعددة المستويات، حول مفهوم “الكفاءة”، وحول الوزراء الذين ستطالهم رياح التغيير، خرجت حكومة “سعدالدين العثماني” في نسختها المعدلة، التي انفردت عن سابقاتها بتقليص عدد الوزراء، وفتح الأبواب أمام بعض الوجوه الجديدة غير المألوفة في المشهد السياسي، لكن المتغير، هو خروج حزب “التقدم والاشتراكية” من البيت الحكومي والتحاقه بصفوف المعارضة، وباستثناء التعديل الحكومي، نرى أن المشهد السياسي، لازال وفيا لمفردات “العناد” و”الصدام” و”النعرات” و”الضرب تحت الحزام” و”اقتناص كبوات وزلات الخصوم” و”اللغط” و”الخرجات” المثيرة للجدل، ونؤكد في الصدد، أن المرحلة القادمة، تفرض الارتقاء بمستوى الخطاب والممارسة، والعبرة في جميع الحالات، فيمن يجد ويفكر ويبادر ويقدم الحلول الناجعة للمشاكل القائمة ويستمع لنبض المجتمع، ويؤمن بحتمية الحوار والتواصل والتشاور، لا من يجيد “اللغط” ويتمادى في”الزلات” و”الخرجات” ويتهافت بحثا عن فرص الارتقاء السياسي والاجتماعي..
– فاجعة “زناتة” :
إذا كانت سنة 2018، قد ميزها “القارب الشبح” أو “الفونتوم”، الذي حرك أحلام العشرات من الشباب اليائسين الحالمين بالوصول إلى الضفة الأخرى للمتوسط، تميزت سنـة 2019، بما بات يعرف ب”فاجعة زناتة” نواحي المحمدية، حيث شاء القدر، أن تتوقف عقارب حياة مجموعة من مرشحي الهجرة السرية، الذين قدموا من ضواحي “قلعة السراغنة” هروبا من واقع صعب يحاصره “الإقصاء” بكل أبعاده وتجلياته، حاملين “حلما مشتركا” و”رغبة جماعية جامحة” في ركوب الموت والخطر، بحثا عن أحلام مشروعة، تحولت فجأة إلى “كابوس مزعج”، تحطم صرحها بين أمواج شواطئ زناتة، في ليلة كانت آخر الليالي، وكأنهم فروا فرادى وجماعات من موت “بطيء”، ووقعوا عنوة في قبضة “موت” ابتلع الحياة والآمال والأحلام، وحولهم إلى ذكرى حبلى بالحسرة والحرقة والألم.
واقعة “أليمة” شكلت مرآة عاكسة لواقع “أليم”، قوى ويقوي الرغبة في ركوب الموت والخطر من قبل شباب تقاسموا جرعة “الفقر” و”الهشاشة” و”الإقصاء”، وتذوقوا جرعة “اليأس” و”الإحباط” و”انسداد الأفق”، شباب في عنفوان العمر، عانوا في صمت ورحلوا في صمت، وبعضهم نجى بأعجوبة وبقدرة قادر، وحكوا بمرارة وحرقة وارتبــاك، “سيناريو الرعب”، حيث التقى “الصمت” بالصمت، و”الموت” بالموت و”الألم” بالألم، في واقعة حزينــة، بالقدر ما كشفت عن “سوءة” الفقر بعدد من المجالات، خاصة بالعالم القروي، حيث لا يعلو صوت على صوت “الإقصـــاء القاتل”، بالقدر ما وجهت البوصلة، نحو شبكات التهجير، التي تحولت إلى أسود متمردة، لا تجيد إلا “القنص” و”الاصطياد” في براري “الفقر” وأخواته، وفي مثل هكذا حالات، فغالبا ما تتجه الأنظار نحو “الشق الجنائي”، من منطلق أن ما حدث، قد شكل أفعالا مخالفة للتشريع الجنائي الموضوعي، ومعاقب عليها بمقتضاه.
لكـــننا نرى، أن “الشق الزجري”، لابد أن يوازيه، تحديد المسؤوليات فيما جرى بكل جرأة وموضوعية، وهي مسؤولية، نختزل تفاصيلها، فيما يعتري الأوساط الحضرية والريفية، من مشاهد “البؤس” و”الإقصاء”، في ظل سوء تدبير المدن والأريــاف، وفشل السياسات العمومية والجهوية، في استئصال شوكة التفاوتات المجالية والفوارق الاجتماعية الصارخة، بشكل أسس لمجالات حضرية وريفية، محركة لأحاسيس النفور واليأس والإحباط، بدل أن تكون مجالات جذابة، تتيح “الإدماج” و”الأمل” و”الحياة”، وفاجعة مأساوية من هذا القبيل، لا مناص من استثمار معطياتها، لأن “اليأس” قد يفضي إلى “الانحراف” و”الجريمة”، وهذا يفرض “تجفيف المنابـــع”..
– جرائم متعددة الزوايا :
إذا كانت سنة 2018 قد انفردت عن سابقاتها، بجرائم وصلت فيها البشاعة مداها، كما هو الشأن بالنسبة لجريمة “شمهروش” وجريمة “قطع الرأس” بالمحمدية، وكذا “جرائم سفاح شاطئ الدهومي ببوزنيقة، فإن سنة 2019، لم تخرج عن قاعدة ما يعتري المجتمع من مظاهر العبث والتهور والعنف والانحراف بكل تجلياته، حيث كانت العديد من المدن مسرحا لعدد من الجرائم المتعددة الزوايا، تصدرتها جرائم استهدفت براءة الطفولة، تارة بالقتل والتقطيع (جريمة العرائش) وتارة ثانية بالذبح (جريمة سلا (قرية أولاد موسى))، وتارة ثالثة بالاغتصاب (جريمة حي ليساسفة بالدار البيضاء التي طالت عددا من الطفلات لايتجاوز عمرهن العشر سنوات)، وهي جرائم وغيرها، شكلت وتشكل مرآة عاكسة، لما أضحى يميز المجتمع من مشاهد العنف والانحراف والعبث والتهور، في ظل غياب الضابط التربوي والقيمي، وهذا الجنوح نحو “الانحراف الخلاق”، يسائل مؤسسات التنشئة الاجتماعية من أسرة ومدرسة وأحزاب سياسية ودور الشباب والرياضة والإعلام …، كما يسائل السياسة الجنائية بأبعادها القانونية والقضائية والزجرية وغيرها.
– تميز في صحاري التفاهة والسخافة :
بالقدر ما حضرت مفردات “التفاهة” و”السخافة” و”التهور” و”العناد” و”الصدام”، بالقدر ما حضر”التميز” الذي بدى كفلتات في واقع التراجعات، وفي هذا الصدد، نشير على سبيل المثال لا الحصر، إلى فوز طلبة مغاربة من كلية الطب والصيدلة بوجدة، بالجائزة الأولى للمحاكاة الطبية (سيمكاب) التي جرت أطوارها بالعاصمة التشيكية “براغ”، وفوز المغرب بالرتبة الأولى بالأولمبيــاد الإفريقية للرياضيات (2019) التي نظمت بمدينة “كاب تاون” بجنوب إفريقيا، وتمكن مخترعين مغاربــة من التتويج في المعرض الدولي للابتكـار ( Bixpo 2019 ) الخاص بالاختراعات والابتكارات العلمية، الذي نظمته الفيدرالية الدولية لجمعيات المخترعين بكوريا الجنوبية غضون شهر نونبر الماضي، دون إغفال الأداء المميز للتلميذة “فاطمة الزهراء أخيار” التي تأهلت عن جدارة واستحقاق، إلى نهائي مسابقة “تحدي القراءة العربي”(نسخة 2019)، في نهاية مميزة، أعادت إلى الأذهان التلميذة “مريم أمجون” التي كسبت تحدي نسخة 2018 بتميز ورقي قل نظيرهما، في زمن صرنا فيه عرضة للارتباك والتيهان، وكلها إنجازات وغيرها، تظهر أن البلد أنجب وينجب طاقات وقدرات ومواهب، ترصع في صمت “قلادة الوطن” بصدق وأمانة وإخلاص، بعيدا عن مفردات “السخافة” و”المصلحة الضيقة” و”الأنانية المفرطة” و”الجشع” و”الريع” و”العناد” و”الصدام”..
– قوانين مثيرة للجدل :
السنة الراحلة أو على وشك الرحيل، ميزتها بعض القوانين التي أثارت موجة من الجدل والنقاش المتعدد المستويات، ونخض بالذكر “القانون الإطار للتربية والتكوين” و”المادة 9 من مشروع قانون المالية” و”المادة 47 من الدستور”، وكدا بعض مقتضيات القانون الجنائي ذات الصلة بالحريات الفردية وعلى رأسها “جريمة الإجهاض”، ولامناص من التذكير هنا، أن “القواعد القانونية” في شموليتها، المقصد الأساس منها، هو ضبط العلاقات سواء بين الأفراد فيما بينهم أو بين الأفراد والدولة.
ويفترض أن تكون هذه القواعد القانونية، عاكسة لنبـــض المجتمع، ومتناغمة مع التحولات التي يشهدها المجتمع، بشكل يقيها من حر الجدل والنفور، ويضمن لها الحدود الممكنة من الديمومة والاستمرارية، وهذا يفرض أن يتم عزل “التشريع” عن الحسابات الضيقة والنعرات الهدامة المثيرة للخلاف والصدام، وهنا نشير إلى أن “القانون” وكلما خضع لمنطق السياسة، كلما ابتعد عن المجتمع، وكلما ابتعد “القانون” عن “المجتمع”، كلما كانت العلاقة بيننا وبين القانون، علاقة “نفور” و”تحايل” و”تطاول”، وهي مفردات تشجـــع على “التمرد” و”الرفض” وتقـوي “شوكة الجدل” بشكل مستـــدام…
يتبـــع…