كتاب السفير

العصـــا فالرويضـــة ..

le patrice

– عزيز لعويسي

واكبنا الجدل الذي وصل حد وصفه بالمعركة الحامية الوطيس حول “لغة التدريس” من خلال مقالين إثنيــن، نشرا في عدد من المواقع والجرائد الإلكترونية، في إطار تفاعلنا مع الشأن السياسي والاجتماعي والتربوي، حاولنا من خلال المقال الأول (جدل لغة التدريس) الإشــارة إلى أن “لغة التدريس الحقيقية” هي لغة الحوار والصراحة والمكاشفة، وتملك الجرأة في معالجة اختلالات ومشكــــلات منظومة التربية والتكوين برؤية شمولية متبصرة، بعيدا عن مفردات الولاء الحزبي والخضــوع الأعمى للحسابات السياسوية الضيقة، أمـا المقال الثاني (مأزق القانون الإطار)، فقد تـــــــــزامن تحريره مع وقوع “مشروع القانون الإطار للتربية والتكوين والبحث العلمي” في مستنقــع “البلوكاج” أو ”العصا في الرويضة”، مما أربك عملية التصويت وجعلها معلقة إلى أجل غير مسمى، في مشهد عصي على الفهم والإدراك اختلطت فيه الأوراق والحسابات والهواجس والرهانات ..

البلوكاج أو “العصا في الرويضة” التي عرقلت التصويت على مشروع القانون الإطار، مفهومان طبعا القاموس السياسي والاجتماعي، الذي ازداد ثراء باحتضان مفاهيم أخرى من قبيل “الإكشوان انوان” و”تحت البغال” و”فوق الحمير” و”الاحتقان”، مفاهيم تعيــد إلى الأذهان “البلوكاج الحكومي” و”بلوكاج الحوار الاجتماعي” الذي لازال حماره متوقفا في العقبة على بعد أيام من فاتح مــاي، و”البلوكاج” الذي أخرج حزب الاستقلال من الحكومة، وكذا “البلوكاج أو الإدماج” الذي أضحى شعارا وحد ويوحد الآلاف من الأساتذة “أطر الأكاديميات” أو “الذين فرض عليهم التعاقد”، الذين لا زالوا مصرين على خوض معركة نضالية، تتأسس على حلين إثنيــن لا ثالث لهما، إما “الإدماج” أو”البلوكاج” ، أو وضع “العصا في الرويضة” دفاعا عن حق على حساب حقوق أخرى ..

البلوكاج أو “العصا في الرويضة” توصيف يختزل كل الحكاية، ويجســـد مرآة عاكسة  لما آل إليه الوطن من فوضوية سياسية وعبث اجتماعي، البعض يلهث وراء المصلحة والبعض الثاني يكرس كل وقته وطاقاته لضرب الخصوم وكسب النقط، والبعض الثالث لايتقــــن إلا لعبة “العصا في الرويضة” والتلويح بسلاح الانتقاد والرفض والمعارضة سعيا وراء “البوز السياسي”، والبعض الرابع تسكنه الأنانية المفرطة ويصر على نيل “الحقوق” و”المطالب” ولو كلــف ذلك الإجهاز على حقوق الآخرين، والبعض الخامس، ينزوي في مقلع “منصات التواصل الاجتماعي” ويرمي بحجارة النقد والسب والتشهير يمينا وشمالا دون حسيب ولارقيب .. مشاهد من ضمن أخرى، وإن اختلفت أطرافها وخلفياتها ومقاصدها، فإنها تتلاقــى جميعها في خنـدق “الأنانيـــة المفرطــة”، التي لاتكرس إلا مشاعر الرفض واليأس ولا تغــذي إلا أحاسيس الغموض والإبهام والاحتجاج وانســداد الأفق ..

في ظل غموض ألوان المشهد السياسي والاجتماعي، لامناص اليـــــــوم من فك “العروة الوثقــى” بين “العصا والرويضة” التي سارت فيروسا قاتلا ينخر جســد المجتمع، وتجاوز عبث البلوكاج وتملك روح الحـــوار والتشاور بدون إقصـــاء أو تمييز، بعيدا عن الولاءات الحزبيـــة والحسابات السياسوية الضيقــــة والهواجس الإيديولوجية المغذية لنيــــران النفور والعبث والاحتجاج، ولايمكن البتة معالجة العبثية السياسية والفوضوية الاجتماعية، بمنطق الربح والخسارة أو الضرب تحت الحزام أو الانتصار للولاءات والمرجعيات، لأن الخاسر الأكبر هو “الوطن” الذي نضيـــــــع عليه فرص الرقي والازدهار، ونحكم عليه بشكل ” هستيري” بالبقاء رهن “الاعتقال الجبري” وراء قضبــــــان “العبث” و”الأنانية المفرطة” ..

من لازال مصرا على رفع سلاح” العصا في الرويضة” بدافع الولاء الحزبي والانتصار للمصلحة الضيقة، أو لي ذراع الخصـــوم، فهـــو يصب الوقود فوق جمر هامد، ويكرس بسلوكه “العبثية” و”الفوضوية” ويربك السياسات العمومية ويعرقل الرؤى والمشاريع التنموية، ويعمــق الهوة بين المواطنين والممارسة السياسية ويوســع مساحات النفور والاحتجاج والاحتقان، وقبل هذا وذاك يمس بالرأسمال اللامادي الوطني (الأمن والاستقرار) في محيط إقليمي يعيش على وقع التوثر والاضطراب .. “العصا في الرويضة” لايمكن اختزالها في خندق السياسة وعبث السياسيين، بل هي كل سلوك أو تصرف غير مسؤول تحركه الأنانية المفرطة والمصلحة الخاصة الضيقة على حساب قضايا وانتظارات الوطن، هي كل من لايستحضر المصلحة العامة ويعيق الوطن ويحرمه من فــرص التحول والتجدد والرقي والازدهـــار.. هي كل من ينتصر للمصلحة الخاصة على حساب مصلحة الوطن، وكل من يكبح جماح الوطن بلجام العبث والتهور والفساد ..

لنتجاوز إذن، تفاهة “العصا في الرويضة” والانفلات من قبضة الولاءات الحزبية ولغة الحسابات الضيقة، ونجنـــح جميعا إلى طاولة الحوار بدون هواجس مسبقة ولا خلفيات، لبناء جســــور الثقة المفقودة، والانكبـاب المسؤول والرزين على معالجة مختلف المشكلات والقضايا التي سارت تضيق الخنــاق على الوطن، والعمل الجماعي على إيجاد الحلول الناجعة لها وفق رؤيـــــة ثاقبة ومتبصــرة لاتنتصر إلا للمصلحة العامة للوطن وقضاياه المصيرية، ولا مناص من إطلاق العنان لحمار الحوار الاجتماعي الذي سئم من الوقوف والانتظــــار، والتعجيل بالتوصل إلى اتفاق يخفف من وطــأة الاحتقان في أفق فاتح ماي، وتحرير “مشروع القانون الإطار” من النعرات الحزبية والإيديولوجية، واستحضار أصوات التنديد والاحتجاج واستثمارها من أجل بناء “قانون مؤطر” قادر على ضمان “الأمن القانوني” والقطع مـع مفردة الاحتقان وأخواتها، بما يضمن التأسيــس لمدرسة عمومية آمنة ومستقرة ومحفزة ومتفتحة وعادلة،  تضع إبن الوزير والسفير جنبا إلى جنب مع إبن مدير الشركة والعامل والحرفي، أما بالنسبة لمأزق التعاقد، فبالقدر ما نثمن تفاعل الحكومة مع مطالب الأساتذة بتنزيل وتجويــد النظام الأساسي للأساتذة أطر الأكاديميات، بالقــدر ما نطالب بالجلوس مع المحتجين لتذويب جليد الاحتقان وبناء الثقـــة المفقـــودة، وإنقاذ مستقبل السنة الدراسية مراعاة لمصلحة الآلاف من التلاميذ الذين ضاقوا ذرعــا من الاحتجاجات والإضرابات والتوقفات ..

بدأنا المقال بالحديث عن جدل “لغة التدريـــس”، ونختمه بالإشارة إلى حوار صحفي سابق للمفكر المغربي “المهــدي المنجرة” أجراه لفائدة إحدى القنوات التلفزية ، أشار من خلاله إلى نموذج اليابان التي حققت إقلاعا تنمويــا بعد ثورة “الميجــي” خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بشكل مكنها من كسب رهان القضاء على الأميــة بالاعتماد على اللغة الوطنية (الاعتماد على الداخل لتحقيق الإقلاع)، وقد حــدد المفكر المغربي، التنمية في ثلاثــة أركان أو محددات، أولها محاربة الأميـــة (المعرفة)وثانيها الدفاع عن اللغــة (ترجمة المعارف إلى اللغة الأم) وثالثها الاهتمام بالبحث العلمي، وهي خيارات مترابطـــة مع بعضها البعض، تساهم جميعها في صون القيم الوطنيـة، وهذا التصور الوازن، يفــــرض إخضاع الرؤى والقوانين الإستراتيجية التي ترهن واقع ومستقبل الوطن لسنوات، إلى “حـــوار وطني” على غرار الحوار الذي سبق وأن أطلق في منظومة العدالة، يتم من خلاله الانفتــاح على المفكرين المشهود لهم بالوطنية ورجاحة العقل والمسؤولية، ومن غير المقبول أن يسيطر “السياسي” على القرارات الاستراتجية ويتحكم في أزرارها، في وقت يتــــم فيه إبعاد أو إقصــاء أو تهميش النخب الفكرية الوطنية التي لم يعــد بسمع لها صوت، في واقـــع العبث والتفاهة والارتبـــاك .. فاتقوا الله في الوطن وكفاكم عبثا بقضاياه المصيريـــــة …

كاتب رأي / [email protected]

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى