في الواجهةكتاب السفير

خطاب العبث أو عبث الخطاب

خطاب العبث أو عبث الخطاب

isjc

– بقلم : عزيز لعويسي

ما يسكننا من هوس إعلامي، وما يربطنا بالقلم والتحرير من علاقات عشق عصية على الفهم والإدراك، يفرض علينا متابعة ما يبث في القنوات الوطنية وما ينشر ويتداول في الإعلام الإلكتروني والعالم الافتراضي من أخبار ومستجدات وخرجات وفيديوهات، في محاولة لاقتناص بعض المحتويات القابلة للاستثمار لتكون موضوعا لمقال، نستعرض فيه ما نؤمن به من رؤى وأفكار ومواقف، من باب الإسهام الفردي والجماعي في إنتاج خطاب رصين ومسؤول يرتقي بمستوى الفكر والذوق، لكن وفي كل سفر بين ضفاف المواقع الإلكترونية وشعاب مواقع التواصل الاجتماعي، ألفنا التوقف الاضطراري عند الكثير من مشاهد الجدل واللغط والإثارة، التي لاتخلو من ممارسات القصف والهجوم والضرب تحت الحزام، وأحيانا التحقير والإهانة والتهكم، بشكل يوحي أننا في حضرة “روتيني اليومي” أو نسخة متحورة لهذا الروتين اليومي الذي امتدت طقوسه إلى السياسة والدين والفكر ومجالات أخرى.

في هذا الإطار وتنويرا للرؤية، نشير على سبيل المثال لا الحصر، إلى شخص محسوب على “التيار السلفي” سبق أن سخر كل ما يختزنه من مشاهد الحقد والكراهية والإقصاء ليهاجم “صحافي” عيبه أنه أبدى رأيا شخصيا بشأن ما بات يعرف إعلاميا بقضية “الشيخ والشيخة”، ولم يكتف بفعل الهجوم، بل واستعمل أساليب تواصلية قدرة بالادعاء أن الصحافي المعني “تبولت عليه الطوبة لما كان رهن الاعتقال بالسجن”، وآخر ركب بسرعة على موجة “المكتوب” ووزع صكوك الاتهام على الشيخة في مسلسل درامي، مثيرا زوبعة من الجدل قسمت الرأي العام إلى فرق وشيع وخوارج، وثالث يقدمه البعض كمفكر تأخر به الزمن، يستغل كل كبيرة وصغيرة، ليخرج خرجات خاطفة يظهر فيها بمظهر “شيخ القبيلة” المدافع الشرس عن الحداثة والحقوق والحريات، والمهاجم العتيد لكل من يسبح في فلك الدين، في إطار خطاب مبني على مفردات “الإثارة” و”خالف تعرف” و”التهجم” و”الإقصاء” و”التجاوز”، بشكل يوحي للناظرين أنه وحده من يملك سلطة الحقيقة ووحده من يملك العلوم ما ظهر منها وما بطن، ورابع اختلطت عليه أوراق الدين والسياسة، والتحق بالركب الافتراضي لتصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين ما ظهر منها وما بطن…

قصف هنا وقصف هناك، ولغط هنا ولغط هناك، هجوم هنا وتصدي ودفاع هناك، وبين هذا وذاك معارك خفية وأخرى معلنة تدور فصولها في عالم افتراضي، بات يشكل أرضا مستباحة لاصوت يعلو فيها على صوت الجدل واللغط والإثارة والتشهير والإقصاء، معارك هنا وحروب هناك، تعكس ما وصلنا إليه من خطاب فكري تتجاذبه أمواج البؤس والتواضع والسخافة والتفاهة أحيانا، بكل ما لذلك من آثار على التربية والتنشئة والذوق العام، في إطار مبارزات واستعراض للعضلات، تروم بلوغ الإثارة التي من شأنها تعبيد طرق المتابعة والمشاهدة سعيا وراء عائدات لاتعترف بالقيم ولا بالأخلاق، في ظل منظومة مجتمعية باتت أكثر جنوحا نحو الإثارة والفضيحة أكثر من أي وقت مضى.

الأقلام الحقيقية تراجعت إلى الخلف، والمفكرون والأكاديميون المشهود لهم بالخبرة والكفاءة والرصانة وغزارة الإنتاج، يكتفون بتأمل ما يجري في العالم الافتراضي من خطاب عبثي، تاركين الحلبة مفتوحة أمام صناع العبث والجدل ومبدعي اللغط والإثارة، الذين يستعرضون العضلات تارة باسم الدين وأخرى باسم الحداثة والانتصار للحقوق والحريات.

وحتى لانتهم بتقييد الحريات أو تتم مؤاخذتنا بالإجهاز على الحق في إبداء الرأي والتعبير، فنحن مع كل نقاش مجتمعي هادف ورصين يساهم في الارتقاء بمستوى الوعي المجتمعي ومستوى الأذواق والقيم والأخلاق، ومع إبداء الرأي والموقف بشأن مختلف القضايا المجتمعية، لكن لن نكــون إلا ضد ما يجري عبر مواقع التواصل الاجتماعي من نقاشات “مراهقاتية” فاقدة للبوصلة، ولن نكون إلا رافضين لكل خطاب ينهل من بحيرة التعصب والكراهية والإكراه، مهما كان المبرر أو الخلفية أو الدافع، على أمل أن نطرح أسئلة الأنانية المفرطة والعبث والإقصاء واللغط والهجوم والقصف، ونرتقي بمستوى الخطاب، ونتملك أدوات التواصل والاحترام والإقناع والجدال الحسن، لأننا تعبنا من خطاب العبث أو عبث الخطاب ولم نعد نحتمل…

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى