أزمة كورونا وتحولات النظام العالمي الجديد 2021-2019 – الجزء الاول
أزمة كورونا وتحولات النظام العالمي الجديد 2021-2019 - الجزء الاول

* ذ.عبد الكبير اجميعي- باحث في الدراسات السياسية والحكامة الترابية
مقدمة
يعيش العالم اليوم على وقع تحولات اقتصادية، اجتماعية وسياسية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر بسبب الانتشار المفاجئ لجائحة كورونا فيروس كوفيد 19. وقد أحدثت هذه الظاهرة الوبائية أزمة صحية مهولة، أثرت على الاقتصادات الكبرى في العالم وعلى وضعية الأفراد والجماعات على مختلف المستويات. كما أفرزت مآسي كبيرة في الأرواح وعدد المصابين مما اعتبره عدد من الخبراء والمتتبعين بتحول مفاجئ في مسارات التاريخ الإنساني، رغم ما عرفته الأنظمة السياسية والاقتصادية جراء سقوط حائط برلين 1989، وما أحدثه من تأثير على مستوى النظام العالمي الذي وضع حدا للقطبية الثنائية بين المعسكر الاشتراكي والنظام الليبرالي .
إن ظهور الوباء المستجد لكوفيد 19 في أوائل شهر دجنبر 2019 بمدينة ووهان الصينية تسبب في خلخلة النظام العالمي الراهن، وانتقل من أزمة صحية إلى تدبير أزمة اقتصادية تم أزمة اجتماعية أصابت الملايين من سكان العالم الشيء، الذي أحدث صدمة قوية للمنتظم الدولي، و تحديدا منظمة الصحة العالمية، التي عجزت عن إيجاد الحلول الصحية اللازمة لمواجهة الجائحة، ما جعل وضعها مرتبكا بشكل كبير.
أمام هذا الوضع، نؤكد على ضرورة طرح سؤال مستقبل النظام العالمي الجديد بعد كورونا، وما هي أهم المحددات المؤثرة في صياغة الخريطة الجيوسياسية والاقتصادية العالمية؟ مركزين على التحديات التي تواجه الإدارة الأمريكية الجديدة لاسترجاع وهج نموها الاقتصادي وتموقعها الجيوسياسي مع إفريقيا والقوى الصاعدة بآسيا. كما سنقف على الوضع الراهن للاتحاد الأوربي بعد أزمة كوفيد 19 الذي ولد عدد من المواقف التي تؤشر على تراجع مستوى التنسيق بين دول الاتحاد خصوصا في التعاطي مع التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمر منها عدد من دول المجموعة. وهو ما ظهر جليا في المواقف الأخيرة لألمانيا وإسبانيا اتجاه المغرب. وما عبرت عنه إيطاليا واليونان والنمسا من استياء اتجاء قرارات تدبير الأزمة الراهنة. كما سأركز خلال هذه المساهمة العلمية على بروز القوى الجديدة للنظام العالمي والمتمثلة في الصين واليابان..
من خلال تقوية أسواقها التجارية والصناعية بأوروبا وإفريقيا ودول الخليج خصوصا بعد تراجع دور الولايات المتحدة الاقتصادي في هذه المناطق. وفي مستوى آخر سأحاول إبراز الفرص الجديدة لإفريقيا بعد الجائحة للتخلص من أطماع الأنماط الاستعمارية المستنزفة لخيراتها وثرواتها الطبيعية والبشرية. وهو ما يستدعي تركيزا أكبر على مستوى التعاون جنوب- جنوب في إطار منظومة الاتحاد الإفريقي ومن أجل إرساء شراكات استراتيجية بين الشمال والجنوب. إذ سأقف على تجربتي المغرب وتونس في مواجهة هذه تداعيات أزمة كوفيد19 ودورهما في تقوية دورهما الاستراتيجي نحو إفريقيا.
على ضوء ذلك سأقترح مقاربة هذا الموضوع عبر أربع محددات أساسية:
المحدد الأول: إعادة إنتاج الأزمة الأمريكية بعد جائحة كورونا
المحدد الثاني: الوباء المستجد ومستقبل وحدة الاتحاد الأوربي
المحدد الثالث: القوى الاقتصادية الجديدة وإعادة تشكيل النظام العالمي
المحدد الرابع : الفرص الجديدة لإفريقيا في صناعة المستقبل الممكن
المحدد الأول: إعادة إنتاج الأزمة الأمريكية بعد جائحة كورونا
1.1 الولايات الأمريكية المتحدة وسؤال القيادة العالمية
شكلت الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى في العالم، فتحكمت في الخرائط السياسية والعسكرية لعدد من دول المعمور. كما رهنت الاقتصاد العالمي من خلال السيطرة على مصادر الإنتاج وضبط السوق التجاري. وقبل نهاية العام الماضي، كانت تعتبر القوة الاقتصادية الكبرى؛ حيث عرف الاقتصاد الأمريكي خلال فترة رئيسها ترامب أرقاما مثيرة من حيث نسبة النمو؛ إذ عرفت خلال سنة 2019 إحداث ما يزيد عن 263 ألف منصب شغل خلال شهر واحد (شهر أبريل 2019)، والتي ساهمت في التخفيف من نسبة البطالة إلى 3.6%؛ بحيث اعتبرت الأولى من نوعها منذ سنة 1953. حيث بلغت نسبة البطالة في صفوف النساء 3.1%، اعتبرها المحللون السياسيون أنها الأفضل في تاريخ البلد، أما بالنسبة للاتنيين فقد بلغت نسبة البطالة إلى 4,2%، وهي الأقل منذ 1973، مقابل 1,7 % بالنسبة لقدماء الجيش الأمريكي، الذي خاض الحرب ضد العراق و أفغانستان.
كما عرف الاقتصاد الأمريكي انتعاشا وتحسنا كبيرين حيث تم إحداث ما يزيد عن 4 ألاف منصب شغل في المجال الصناعي و33 ألف منصب شغل بقطاع العقار، إضافة إلى 76 ألف في مجال التكنولوجيا الحديثة و62 ألف بقطاع التعليم و34 ألف منصب شغل بقطاع السياحة . وهو ما دفع معظم المتتبعين ووسائل الإعلام إلى الاعتراف بحصيلة الرئيس الأسبق واعتبارها مبهرة على المستوى الاقتصادي.
أما على مستوى نسبة البطالة لدى الأمريكيين السود فقد حققت أكبر انخفاض في تاريخ أمريكا؛ حيث وصلت إلى 5.5%، كما عرف الناتح الداخلي الخام PIB نسبة 2.3% في سنة 2018. ومن جانب آخر، فإن الناتج الداخلي الخام للولايات المتحدة الأمريكية عرف ارتفاعا؛ حيث وصل سنة 2019 إلى 21.427.100 مليون دولار مقابل 20.580.200 مليون دولار سنة.
وفي سياق علاقاتها الخارجية، فقد توجه التعاون الاستراتيجيي للولايات المتحدة الأمريكية نحو إفريقيا ودول آسيا. تعزز هذا الانفتاح خصوصا مع المغرب باعتباره شريكا أساسيا في مجالات الطاقة والتعليم والأمن وحقوق الإنسان والعلاقات بين الأديان والقضايا السياسية بالإضافة إلى التقدم الكبير الذي عرفته العلاقات بين البلدين بعد اعتماد اتفاقية التجارة الحرة التي أبرزت حجم الاستثمارات في المغرب.
تضاعف عدد الشركات الأمريكية التي تعمل بالمغرب خلال سنة 2017 إلى “160 شركة فيما وضل حجم المبادلات التجارية إلى 52 مليار درهم مغربي عام 2019 بزيادة 28 في المائة مقارنة مع عام 2017 وانتعشت الساحة الأمريكية في المغرب بأكثر من 300 ألف سائح أمريكي خلال نفس السنة، كما بلغ مجموع المساعدات الأمريكية للمغرب إلى 38,6 مليون دولار أمريكي خلال السنة المالية ل 2017”.
في ضوء هذه المعطيات يمكن أن نقف على خلاصة أساسية تتجلى في أن مؤشرات الاقتصاد الأمريكي قد عززت وقتها موقع ترامب على رأس السلطة، كما عززت صدارة الولايات المتحدة في النظام الاقتصادي العالمي وبقوتها الكبرى رغم المنافسة الأسيوية والروسية تحديدا. وهو ما سيشكل تحديا سياسيا واقتصاديا جديد مرتبطا بالظروف والسياقات المتغيرة للإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة بايدن.
2.1 – وباء كورونا والأزمة المفاجئة
طبعا إلى حدود هنا الوضع الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية يعكس حضورها القوي في النظام العالمي وتحكمها في مختلف مدخلات ومخرجات الاقتصاد الدولي. إلا أن المتتبع للأحداث المتتالية التي أفرزتها أزمة كورونا كوفيد 19، والحراك الشعبي الذي عرفته مختلف شوارع ومدن الولايات جراء اغتيال المواطن جورج فلوريد، ألقت بضلالها على هذا الوضع. إذ بدأ الاقتصاد الأمريكي في الانهيار المتزايد وتراجع سعر النفط في الأسواق العالمية بعدما كان ترامب حينها يتحكم في أسعاره وتسويقه للعالم. كما ارتفع منسوب الاحتقان الشعبي والمظاهرات الداعية إلى الإنصاف الاجتماعي للمواطنات والمواطنين الأمريكيين السود.
فبعد أسبوعين من ظهور الوباء المستجد، بدأت تتراكم أزمات الاقتصاد، حيث وصلت نسبة البطالة إلى مستويات قياسية في ظرف وجيز لم يسبق أن عرفها تاريخ البلد. ففي مارس 2020 بدأ ناقوس الخطر يدق مدويا نسبة بطالة مقلقة وصلت إلى 30 % كما أعلن عنها البنك المركزي الأمريكي؛ الذي أكد أن الولايات المتحدة لم تسجل مثل هذه النسبة خلال الأزمة الاقتصادية لـ 1929، مما يبرز مدى خطورة التداعيات الاجتماعية والاقتصادية التي أفرزتها جائحة كوفيد 19. وقد عرضت هذه الأزمة خلال أسبوع واحد من نفس الشهر حوالي 3,3 مليون أمريكي للبطالة حسب تقرير ديبرتمنت أوف لابور departement of labor التابع لوزارة الشغل الأمريكية.
في ضوء هذه الأرقام الصادرة عن المؤسسات الرسمية الأمريكية يمكن أن نسجل بأن الأزمة التي عاشتها البلاد خلال هذه الفترة غير مسبوقة وتهدد بأخطار الركود الاقتصادي وضعف الاستقرار الاجتماعي وهو ما عبر عنه في نفس الاتجاه جيروم باول JEROM Powellالرئيس المدير العام للصندوق الاحتياطي الفيدرالي FED ، مبرزا أن هذه المؤسسة خصصت مبلغ 75 مليار دولار خلال بداية الجائحة لمواجهة الأزمة الصحية التي تتخبط فيها البلاد.
وقد ولدت هذه الأزمة المالية شعورا بالانحطاط والتذمر للمقاولات، كما أصبح العموم يردد مقولة Helicopter Mony والتي تعبر عن حجم انتظاراتهم وأحلامهم بسقوط أوراق نقدية من السماء عبر حوامة لفائدة المواطنات والمواطنين الأمريكيين. و هو ما دفع بمجلس النواب ومجلس المستشارين إلى الاتفاق حول تخصيص اعتمادات مهمة تقدر ب 2000 مليار دولار لإنقاد الاقتصاد وتفادي ركوده الإنتاجي. مما دفع بالحكومة الأمريكية، على إثر هذه التداعيات، إلى منح مساعدات مالية لفائدة المواطنين الراشدين بقيمة 1200 دولار لكل فرد، مقابل 500 دولار للأطفال، بالإضافة إلى رصد مبلغ 337 مليار دولار للمقاولات الصغرى و500 مليار موجهة للمقاولات المتضررة من جائحة كورونا. في ما خصصت 100 مليار دولار للمستشفيات وغلاف مالي يقدر ب 250 مليار دولار لتغطية التعويضات عن البطالة.