في الواجهةكتاب السفير

خلافاً لظاهرة “الترمضينة”: رمضان شهر الحبّ والتسامح

خلافاً لظاهرة "الترمضينة": رمضان شهر الحبّ والتسامح

le patrice

* بقلم د. يسين العمري – دكتور في سوسيولوجيا الدين والسياسة.

مقدمة منطقية واستهلال لا بدّ منه:

قبيل الإفطار بسويعات معدودات، وأثناء عودتي من العمل للمنزل، مارست هوايتي المفضلة في مطالعة وجوه الناس، العديد ممّن نظرت إليهم وإليهنّ، رصدت ما يلي: وجوه عابسة، نظرات تتطاير شرراً، لعاب في جانبي الشفتين، أشخاص متأهّبون للفتك، متأبّطون شرّاً، منتظرون لأيّ ربع فرصة للانقضاض وسفك الدّم، هذا بالنسبة للراجلين، أمّا السائقين وسط مرور مختنق بشوارع الدار البيضاء، في يوم ثاني رمضان، فمنظرهم أيضاً لا يقلّ بؤساً، كلمات نابية، فوضى في السياقة، أنانية مفرطة، سبّ وشتم… الخ. هذا التأمل انتهى بصراخ أحد الأشخاص عاري الجسد وهو يرعد ويزبد ويتوعد ويشتم… مباشرة حاولت الابتعاد، و علمت يقينا أنني أمام ما يحلو للبعض تسميته بظاهرة “الترمضينة”، وهي ممارسات تتلبّس بالعنف اللفظي والرمزي وحتى الجسدي، ألصقت زوراً وبهتاناً بشهر رمضان، وبعبادة الصوم تحديداً، حيث يبرّر صاحب هذه السلوكيات المرضية ما يفعله بأنّه “صائم”، وصيامه يقتضي عدم التدخين مثلا أو الإقلاع عن المخدّر.

إن من أخطر ما ابتلينا به في عصرنا هذا هو التعصّب في كلّ شيء ولكلّ شيء، التعصب للفكرة وللرأي، التعصب للبلد، التعصب للمذهب، للفريق الرياضي، للدين، للعِرْق، للغة، للجنس، للحزب السياسي، للأشخاص… وهذا يفترض جدلاً أنّ شخصية المتعصّب دوماً على حقّ، وأنّه قطعاً صاحب الحقيقة المطلقة التي لا غبار عليها، وأنّ الخطأ دائما يأتي من الآخر ويتجسّد فيه، وأستحضر في هذا المقام مقولة الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر “الجحيم هو الآخرون”.

حتى إذا جاء الآخر بفكر مختلف، فبدل أن نسعى لمقارعة الفكر بالفكر والحجّة بالحجّة لتجاوز منطق التنافر المعرفي، نلجأ بدلاً من ذلك كآلية نفسية للدفاع إلى ما يسمّى بالإنكار، من خلال تغليط الفكر الآخر حتى قبل التمحيص والتدقيق، سعيا لخلق اتّساق معرفي وتوازن معرفي “مزعوم”.

هذه المقدّمة الكبرى تقودني إلى مقدّمة صغرى مفادها أنّ دواء التعصّب هو الحبّ والتسامح، مع تمييز بسيط هو أنّ كلا من الحب والتسامح ليسا شيكاً على بياض، فهما يعبّران عن مجموعة من المشاعر الإيجابية والحالات العاطفية تجاه الآخر، دون الذوبان فيه، ودون إلغاء شخصيتنا من أجله.

والمترمضن كائن يعيش معنا ونعيش معه، نجده في الشارع والإدارة، في المستشفى ووسائل النقل، في المتاجر والأسواق… الخ، ولكي لا يتمّ الاصطدام به، فالحلّ تجاهله والإعراض عنه، اعتباراً لكونه شخصية مَرَضية تستدعي العلاج، فهو شخص يستحقّ تعاطف وعفو وتفهّم المجتمع، شخص ينبغي على الجهات المختصّة القيام بعلاجه قبل التفكير في عزله أو عقابه.

ولتحليل هذا المدخل سأتطرّق إلى ثلاثة أفكار رئيسية:

أولا: الترمضينة إقرار صارخ بوجود اضطراب سوسيو- سيكولوجي:

في الحقيقة أجد أنّ التعصّب للرأي يعبّر عن نوع من البارانويا أو تضخّم الأنا الذي قد يصل في مستوياته المتقدّمة إلى جنون العظمة، هذا النوع من الأشخاص يستحيل إقناعه بأنّه على خطأ، طبعاً قد لا يكون هذا هو حال كلّ من يدّعي أنه “مترمضن”، ولكن هو حال يعبّر بصفة عامّة عن أيّ شخص يعتبر رأيه دستوراً وكتاباً مقدّساً، لا يجوز مناقشته ولا نقده. وهذا نوع لا طائل من الحديث معه، ولعلّ أفضل تعامل هو تطبيق الآية الكريمة “وأعرض عن الجاهلين”، فشخصية المترمضن عدوانية، متربّصة، باحثة عن الأذى، متعطّشة لرؤية الدماء.

إنّ الوسط الاجتماعي كذلك يلعب دوراً مهماً في الترمضينة، التي تلاحظ في أحزمة الفقر والأحياء الشعبية أكثر من غيرها، وهذا لا ينفي عدم وجودها في الأحياء الراقية أو لدى الطبقات الميسورة، لكن النسبة والتناسب يختلفان، وكذلك يختلف الأسلوب والتعبير والحوار، وأيضاً قد يختلف المآل، فترمضينة حي شعبي قد تؤدّي إلى القبر أو إلى إحداث عاهة مستديمة، فكما أسلفت تتقاطع ظاهرة الترمضينة مع استهلاك المخدّرات والتدخين، وهو ما يجعل المترمضن أثناء صومه يتوقف عن تعاطي تلك الأشياء، لذلك يعبّر عن حالته بكونه “مقطوع”، أي أنّه يكفّ عن تناول تلك السموم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، لهذا يكون أكثر عدوانية وتأهبا للشر من غيره.

ثانيا: الترمضينة ناتجة عن خلل فاحش وقصور فاضح في آليات التواصل:

من نافلة القول التذكير بأنّ التواصل عملية حوار بين طرفين أو أكثير (كلمات أو كتابة أو رموز…)، وهي عملية تقتضي أن تكون الرسالة واضحة للمتلقي كما يريدها المرسل، فإن وقع تشويش أو سوء فهم لمضمون الرسالة أو أحد مكوناتها، ربما نشأ نزاع بين طرفي التواصل.

يقتضي التواصل آداباً للحوار وأخلاقيات للتخاطب، غير أنّ شخصية “المترمضن” لا تحتمل هذا الأمر، لأنّه أصلا لا يؤمن بالحوار، والشيء الوحيد الذي يؤمن به الشجار والسّب واللعن والطعن.

ثالثا: الترمضينة ليست من أخلاق الإسلام في شيء:

يتعامل المترمضن وكأنّه صائم بالجميل، كما يقال بالعامية، أي وكأنّه يمنّ على الله وعلى الناس أنّه صائم، والحال أنّ صوم رمضان يجب أن يكون إيماناً واحتساباً لتغفر به الذنوب، وتزداد به المراتب، والإسلام دين الحبّ والتسامح بامتياز، مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: “لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه”، ويقول عز وجل في كتابه العزيز “فاعفوا واصفحوا”.

لكي لا أطيل، الترمضينة داء يتطلب دواءاً، والإعراض عن المترمضنين حلّ من الحلول عوض الاصطدام بهم، والتحجج بالصيام كسبب للترمضينة لا يستقيم، فالإسلام كدين وعقيدة، وكعبادات ومعاملات، أصله وجوهره الحبّ والتسامح لا العنف والتعنيف.

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى