في الواجهةكتاب السفير

“الخريف العربي” لحكومات ما بعد دستور 2011 – الجزء الثاني

le patrice

* بقلم : د. المصطفى ساجد

وتبعا لذلك، فإن أولوية الأولويات، حسب رواد هذا المنطق، للفئات الفقيرة والمعوزة هي العمل على إشباع الحاجيات الضرورية للعيش دون المبالاة بقيم الكرامة وتطلعات لا تعنيهم، وبالتالي تكريس منطق ” الخبز أسمى من الحرية !”

 والسؤال الذي يطرح نفسه هو كالتالي: أنه كيف عجزت الحكومات المتعاقبة منذ السبعينات  عن وضع المواطن في صلب اهتمامها وسياساتها العمومية، خاصة على مستوى الاستثمار العمومي والسياسات الاجتماعية (التعليم، الصحة…)؟

فالحكومات المتعاقبة كانت مجرد منفذ لتعليمات وخدمة أجندة طرفين اثنين: الدولة النافذة ثم المؤسسات المالية الدولية، مما نتج عنه رسم سياسة تفقيرية ركزت على الإقصاء الاجتماعي وتوسيع هوة الفوارق الطبقية، والضرب بعرض الحائط كل سياسة اجتماعية تروم الى توفير حماية اجتماعية لتغطية  الأخطار الاجتماعية. بالنسبة للمغرب، فنفقات قطاع الصحة لا تتجاوز 6.5%  من الناتج الداخلي الخام (PIB)، علما أن هذه النسبة تفوق 11% في مجموعة من الدول كسويسرا وفرنسا وألمانيا والدنمارك والسويد …

من خلال إيمانه وتشبته بإيجابيات خوصصة القطاعات الاجتماعية الأساسية كالصحة والتعليم وما أدلى به” أنه حان الوقت أن ترفع الدولة يدها عن الصحة والتعليم”، فرئيس الحكومة السابق كان يسعى ويخطط لتقليص نسبة الميزانية المخصصة لقطاع الصحة لتقارب 0%  ولإهدائه على طبق من ذهب للمؤسسات الليبرالية ولمقاولات القطاع الخاص لتمكينهم من الاستثمار في قطاع حيوي بربح مضمون على حساب حياة المواطنين وحاجياتهم الضرورية في ضمان عيش آمن التي تعد من المهام الرئيسية للدولة بجانب القطاعات الأخرى للحفاظ على السلم المدني والأمن الخارجي. 

ومقابل شراء هذا التواطؤ وتأتيت المشهد السياسي تم نهج سياسة الإغراء وشراء النخب عبر امتيازات اقتصاد الريع ومجازاة ذوي المسؤوليات السياسية والإدارية بالمناصب والمنافع، ضدا في متطلبات التنمية الشاملة وضدا في الحاجيات الضرورية والأساسية لصون كرامة المواطن الذي يتم اللجوء اليه والتعامل معه كمستهلك وناخب موسمي.

التوجه الريعي للسياسة الاقتصادية له عواقب اجتماعية تسعى من ورائه الطبقة الحاكمة ذات النفوذ السياسي والإداري الى استغلال مواقعها لاحتكار قطاعات اقتصادية ذات الربح السريع (العقار، السياحة، الفلاحة، المناجم، النقل، الصيد البحري، المقالع، وخدمات أخرى) على حساب قطاعات أكثر إنتاجية التي لها علاقة بالبحث العلمي كالصناعة.

فعدم  وضع استراتيجية إقتصادية – تهدف الى خلق دينامية إنتاجية بتشجيع القطاعات ذات الارتباط بالبحث العلمي وبالابتكارات، بجانب الأنشطة الاقتصادية التي يتوفر فيها المغرب على مؤهلات وموارد هامة (الفلاحة، السياحة، الصيد البحري…)- هي التي ينجم عنها اقتصاد وطني غير قادر على خلق فرص للشغل وعلى استيعاب جيوش العاطلين وعلى الحد من تفاقم ظاهرة الببطالة وما يصاحبها من فقر وإقصاء وهشاشة اجتماعية.

 وفي إطار اقتصاد وطني أقل إنتاجية وتنافسية، وفي ظل ضعف نسب النمو الاقتصادي، تصبح الهجرة الى الخارج والأنشطة التجارية والخدماتية بالاقتصاد غير المهيكل Economie Informelle هي المآل لضمان أدنى ضروريات العيش والاستقرار.

فضعف الدينامية الاقتصادية، الذي يؤزم الوضعية الاجتماعية ويفاقم مشكل البطالة، وتهميش السياسة الاجتماعية، بعدم إعطاء الأولوية للقطاعات الاجتماعية المنتجة للإنسان والمواطن الملم بحقوقه و واجباته اتجاه محيطه واتجاه المجتمع، من تعليم عمومي قوى وصحة وتعميم الرعاية والحماية الاجتماعية، هذه كلها عوامل يمكن أن تساهم في تفشي الانحرافات والأفعال الإجرامية واللجوء الى ممارسة الأنشطة المجرمة قانونيا.

 فالدراسات والتقارير تحدد مساهمة الاقتصاد غير المهيكل في خلق فرص الشغل وفي خلق الثروة في حدود نسبة تتراوح ما بين 50 و 60% من الناتج الداخلي الخام.

فإذا كان مجموعة من المنظرين الإقتصاديين والفاعلين بالمؤسسات والهيئات والمنظمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية يعتبرون أنشطة الاقتصاد غير المهيكل بالدول الإفريقية كمكون للاقتصاد الاجتماعي، من خلال المساهمة في التشغيل وفي نقص الحيف الاقتصادي والاجتماعي، إلا أن نسبة تفاقمه وعدم تنظيم وضبط أنشطته تخلق سلبيات عبر ترييف المدن وضرب رونقها وخنق أزقتها و احتلال أماكن بها وتكثيف الضغط على الجماعات الترابية فيما يخص الحفاظ على النظافة وجمع البقايا والنفايات. في غياب الاستثمارات الإنتاجية، التي تخلق فرص الشغل، تصبح أنشطة الاقتصاد غير المهيكل قبلة للشباب العاطل في الحرف والتجارة وفي أنشطة خدماتية هامشية كما هو حال تنامي خدمات “حراس السيارات”، أصحاب السترات الصفراء الذين أصبحوا يحتلون جميع الأماكن والأزقة بالمدن، و حتى أماكن الراحة والاستجمام بالعالم القروي، لمطاردة درهيمات عبر إزعاجات واعتداءات أحيانا، علما أن أصحاب السترات الصفراء في فرنسا يحتجون على طريقة تدبير شؤون البلاد وينددون باحترام الديمقراطية وبعدم إلغاء الضريبة على الثروة !!

بتفقيره وتجهيله يصبح الشباب العاطل فريسة سهلة للاستغلال والاستقطاب والتجيييش من طرف أصحاب الأموال المشبوهة للزج بهم في ممارسات دنيئة وتسخيرهم للمناصرة في الحملات الانتخابية لإستعراض العضلات والقوة بالشوارع والأزقة وما ينجم عن ذلك من اصطدامات وتعنيفات وملاكمات عوض تنظيم لقاءات واجتماعات النقاش والتحليل ومهرجانات عرض البرامج والمشاريع المجتمعية.   

وبالرجوع إلى النظريات الاقتصادية فإن الصناعة تتطلب ابتكارات والربح عبرها يتطلب مدة زمنية طويلة، الشيء الذي يدفع الطبقة المهيمنة سياسيا واقتصاديا إلى التخلي عن القطاع الصناعي باعتباره قطاع ربحه غير مضمون، بالإضافة إلى أن قطاع الصناعة يقوم على الإنتاجية التي تخلق بدورها فرصا كبيرة للشغل وتنظيمات عمالية نقابية وسياسية، وبالتالي تشكيل طبقة حاملة لوعي يحكمه الصراع الطبقي ويهدد مصالح الطبقات الحاكمة.

وتنجلي المظاهر الاجتماعية لاقتصاد الريع في أن الثروة التي تخلقها القطاعات الريعية لا تساهم، عبر سياسة ضريبية عادلة وفاعلة، في مداخيل الدولة، وبالتالي الخاسر الأكبر هي الخدمات الاجتماعية (تعليم – صحة- الرعاية الاجتماعية). القطاعات الريعية المشجعة هي قطاعات تخلق الثروة السهلة والسريعة من خلال احتكارها واستغلال واستنزاف الموارد الطبيعية وتضرب في العمق التنمية المستدامة وتهدد مصالح الفئات المستقبلية.

فالتنمية المستدامة تأخذ بعين الاعتبار البعد الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بحيث أنه في غياب الهاجس البيئي، فالأنشطة الاقتصادية، التي تهدف إلى الربح واستغلال الموارد الطبيعية، تضر بالمحيط البيئي وتستنزف الثروات. ففي الدول التي تتميز بالارتباط الوثيق بين النفوذ السياسي والإداري من جهة والاستثمارات في الأنشطة الاقتصادية الريعية ذات الربح السريع والفاحش من جهة أخرى- وفي ظل غياب تشريعات جادة للحفاظ على البيئة وإرادة سياسية حقيقية للقطع مع استغلال الموارد الطبيعية- فموارد المحيط البيئي يزج بها داخل مشاريع التسليع والاغتناء السريع في إطار رأسمالية متوحشة لا تبالي بالجانب البيئي والاجتماعي و تفترس موارد محيطها دون أدنى اعتبار لما ينجم عن ذلك من أضرار للفئات الحالية والمستقبلية واستنزاف و تلوث و تشوهات عمرانية وساحلية.

فالارتباط بين استغلال النفوذ و الاستثمارات في الأنشطة الاقتصادية تتجسد أضراره البيئية في استغلال رمال الشواطئ واستنزاف الخيرات الباطنية لمقالع الرمال، كما هو حال مقالع الرمال بجماعة عين تيزغة بإقليم بنسليمان وما يصاحب ذلك من أمراض تنفسية للساكنة المجاورة و التأثير السلبي على إنتاجية الأراضي الزراعية والتلوث الخطير لبيئة إقليم كان يعتبر رئة المدن المجاورة.

يجب الإشارة كذلك الى ظاهرة الاستثمارات العقارية، التي أضحت تنبت كالفطريات بجميع أنحاء البلاد والتي غالبا ما تتوج باستياءات الزبناء و متابعات قضائية  و محاكمات، كحال مشاريع تعاونيات و وداديات المحيط الساحلي لجماعة المنصورية بإقليم بنسليمان، هذه المشاكل العقارية التي تطرح مسألة حدود مسؤوليات رؤساء الجماعات المعنية  والسلطات المحلية من عمال وولاة فيما يخص ترخيصات المشاريع العقارية التي أصبحت بالمغرب مشاريع ” للبزنسة ” على حساب المنخرطين والزبناء ومشاريع تشويه المحيط البيئي وفرص ثمينة للجهات المانحة للرخص والتسهيلات لتلقي رشاوي ضخمة وجزاءات مالية طائلة. فاستغلال النفوذ يدفع كذلك الى استغلال موارد الغابات والى تسييج مناطق بها و خوصصتها لأغراض شخصية وعائلية وبالتالي ضرب الملك العمومي.

فعلاقة استغلال النفوذ باستغلال الخيرات والموارد تهم كذلك الموارد المعدنية للمناجم والتطاول على الأراضي الزراعية والاستثمار بها عبر التسهيلات والامتيازات فيما يخص عوامل الإنتاج والتمويل والتسويق. فالجانب البيئي يهم كذلك استغلال المياه وعدم عقلنة استعمالها خاصة و أن المغرب يعتبر من الدول التي تعاني من مشكل التصحر والتغييرات المناخية. وفي غياب التنافسية وضمان الربح السريع فالطبقة الحاكمة والمستثمرة ريعيا هي في غنى عن تشجيع وتمويل البحث العلمي لتدارك الفوارق التنموية وللقطع مع مظاهر التخلف الاقتصادي والاجتماعي. فرغم الموقع الجغرافي المتميز للمغرب وثرواته الطبيعية و مؤهلاته الحضارية والثقافية والبشرية، فمن بين 188 دولة فالمغرب يرتب دائما ما بين 120 و 130 فيما يخص مؤشر التنمية البشرية (IDH) في التقارير السنوية لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية (PNUD) الذي اعتمد صياغة تقارير سنوية لترتيب الدول فيما يخص التنمية البشرية منذ 1990.

فالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية (INDH) – التي تم اعتمادها في سنة 2005 بعد التقرير السنوي لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية لسنة 2003، الذي رتب المغرب في درجة 126، ورغم إيجابياتها بإشراك فعاليات المجتمع المدني من جمعيات وتعاونيات… في مشاريع التنمية الاجتماعية والبشرية- لم تمكن بعد من تدارك الفوارق الاجتماعية والمجالية بحيث أن درجة ترتيب المغرب في تقارير التنمية البشرية لم تعرف تحسنا ملحوظا الى اليوم. وفي هذا الإطار فتقارير ودراسات ركزت على مشاكل الصحة والتعليم. بالرجوع الى هذه التقارير، فنسبة الأمية تتجاوز 40% وتقارب 60 % فيما يخص النساء بالعالم القروي. و حسب صندوق النقد لدولي، فنسبة الرشوة تناهز 2 % من الناتج الداخلي الخام، ما يساوي 20.7 مليار درهم لسنة 2017.

إستنادا إلى دراسات وإلى مؤشر جيني “Indice de Gini”، الذي يدقق في حجم الفوارق الاجتماعية، فهوة  الفوارق الاجتماعية  لم تعرف أدنى تقلص مقارنة مع سنوات 1990 و 2000، الشيء الذي يوضح استمرارية التوزيع غير العادل والمنصف للثروة وعدم اهتمام حكومات ما بعد دستور 2011 بهذه الظاهرة الاجتماعية والانكباب على الحد منها والعمل على تقليص الفوارق الاجتماعية و المجالية، من خلال نظام ضريبي عادل ومحاربة اقتصاد الريع والامتيازات أو سن سياسة ملائمة لدينامية الاقتصاد الوطني بتشجيع الأنشطة الاقتصادية بجميع الجهات والمناطق.

أستاذ بكلية الحقوق بالمحمدية*

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى