في الواجهة

ماذا تريد إسبانيا من المغرب؟

le patrice

السفير 24 – د. يسين العمري

نفاق سياسي ومتاجرة بالبعد الإنساني واستغلال لقضايا الهجرة.

في ظل العلاقات المتوترة مؤخراً بين الجارين اللدودين المغرب، خرج السيد ناصر بوريطة وزير الخارجية المغربي بتصريحين الأول لوكالة المغربي العربي للأنباء، وخلاصة ما جاء فيه هو أنّ المغرب لا يقبل اللعبة المزدوجة التي تلجأ إليها مدريد، وأنّ الهجوم الشرس الذي يتعرض لها المغرب بالاعتماد على أخبار زائفة لا يمكن أن تغطّي على الأسباب الحقيقية للأزمة والمتعلقة باستقبال إسبانيا لزعيم البوليساريو بهوية مزيفة، وعلى إسبانيا أن تدرك أنّ مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمر، وبالتالي فبعض الأوساط بإسبانيا يجب عليها تحيين نظرتها للمغرب.

أمّا التصريح الثاني الذي أدلى به السيد وزير الخارجية فقد كان لوكالة الأنباء الإسبانية، وورد فيه أنّ سفيرة المغرب التي تمّ استدعاءها للرباط من أجل التشاور، لن تعود ما دامت الأزمة قائمة، وهذه الأخيرة ستبقى قائمة ما دامت الأسباب المؤدّية لها مستمرّة، والمقصود في هذا السياق تواجد المدعو إبراهيم غالي على الأراضي الإسبانية، وإفلاته من المثول أمام العدالة هناك.

إنّ المتتبع للسياسة الخارجية المغربية، وللعلاقات المغربية الإسبانية، يرصد تصعيداً ملحوظاً من نبرة الاحتجاج لدى الطرف المغربي، بحيث باتت لهجته أكثر تصعيدية من ذي قبل، حيث كان في أوقات سابقة يكتفي بالتظلّم والاستنكار، وهذا يعدّ مؤشراً قوياً على أنّ المغرب بات يرفض أن يكون الطرف الأضعف في العلاقات بين المملكتين الجارتين، فالمغرب الآن يطالب بالتعامل معه كنِدّ وكفؤ، بعيداً عن منطق التعالي الكولونيالي، وإسبانيا هنا مطالبة بنسيان الماضي حيث كان شمال وجنوب المغرب محتلَّين من قِبَل إسبانيا، على الرغم من أنّ مدينتي سبتة ومليلية وبعض الجزر لا تزال محتلّة إلى الآن، ولا شكّ أنّ نبرة الخطاب العالية التي تحمل نوعاً من الندّية والقوّة بل والتحدّي، باتت مزعجة جدّاً في مدريد، ولا يقتصر الأمر على سبب الأزمة الحالية، بل إنّ إسبانيا تحاول افتعال أزمات مع المغرب من باب استعمال تقنية الإلهاء، لثنيه عن فتح ملفات مستقبلية لا شكّ سيخوضها الطرفان آجلاً أم عاجلاً، ومنها ملف سبتة ومليلية الذي ما يزال مطلباً مغربياً قائماً، وقد كان حديث رئيس الحكومة المغربي السيد سعد الدين العثماني لقناة الشرق السعودية مثل المثير الذي أنتج سلوكاً بالنسبة للسلطات الإسبانية، مثلما نقول في علم النفس وبالضبط في المدرسة السلوكية، حيث أنّ تصريح العثماني بأنّ المغرب سيفتح ملفّ سبتة ومليلية بعد طيّ ملف الصحراء المغربية، أثار ردود فعل غاضبة في مدريد، هذه الأخيرة التي لا زالت لم تتنفّس بعد الصعداء، من جرّاء خنق المغرب اقتصاديا للثغرين المحتلين.

وهناك ملفّ آخر غاية في الحساسية، وهو ترسيم المغرب لحدوده البحرية عبر كلّ ترابه الوطني، ومن ضمنه الحدود البحرية مع جزر الخالدات (كناريا) التابعة لإسبانيا قبالة سواحل الصحراء المغربية، ولا تنظر بعين الرضا لسعي المغرب لحيازة جبل تروبيكال الغني جدا جدا بالمعادن، بل هو من أغنى مناطق العالم بالمعادن.

وكذلك فإنّ إسبانياً لا تنظر مطلقاً بعين الرضا لتنامي مكانة المغرب كقوّة إقليمية، بل إنها تنظر بعين الريبة والشك لأيّ مكتسب يحرزه المغرب، من قبيل التقارب مع الولايات المتحدة، وصفقات الأسلحة المبرمة بين الطرفين، لذلك فإنّ الدوائر السياسية الإسبانية شعرت بقلق عميق جداً عندما قام المغرب بتطهير معبر الكركرات، وطرد فلول إرهابيي البوليساريو منه إلى غير رجعة، وانتاب إسبانيا الحنق والغيظ إن لم نقل الحقد والبغض من جرّاء اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية الصحراء.

ومن بين الأبعاد التحليلية، يمكن القول بأنّ قضية الصحراء المغربية بالنسبة للدولة المغربية وكذلك للشعب المغربي، هي ليست أبداً قضية حدود، بل هي قضية وجود، وهذا ما يجب على الساسة الإسبان وغيرهم من مهندسي وصانعي القرار السياسي في الجارة الإيبيرية أن يعوه جيداً، فالمغرب لا يتهاون مطلقاً في هذه القضية، في حين أنّ إسبانيا وبتواطؤ مع الجزائر قامت بعمل استفزازي جداً للمغرب كدولة وكشعب، على إثر قيامها باستقبال مجرم الحرب مغتصب النساء والأطفال السفاح الكدعو إبراهيم غالي، وبأيّة طريقة؟ تمّ استقباله في جنح الظلام، بطريقة مخزية ومشينة، بجواز سفر مزوّر، باسم بن بطّوش، جنسيته جزائري من وهران، وهذا أبداً ليس لا منطق ولا أسلوب دول تحترم نفسها وتحترم جيرانها، بل هو أسلوب ميليشيات ومافيات خارجة على القانون، بل إنّ إسبانياً لمّا انكشفت سوءتها وسقطت عنها ورقة التوت، حاولت بمنتهى الوقاحة أن تخرج الحدث عن سياقه، لتدّعي أنّها تستقبل ذلك المجرم لدواعٍ إنسانية، لعلاجه.

وأنا كمحلّل أتساءل في هذا السياق: ماذا لو استقبلت الرباط الزعيم الاستقلال الكطالوني “كارلوس بوجديمون” بجواز مزوّر في اسم ستيفان رودريجيز مثلاً، في عزّ الأومة بين مدريد وكطالونيا غداة إجراء استفتاء تقرير المصير لشعب كطالونيا، ثمّ بعد انكشاف المستور برّر المغرب سلوكه ذاك بعلاج الزعيم الكطالوني، هل كانت إسبانيا لتقبل من المغرب ذلك وتلتمس له العذر؟ مستحيل طبعاً. إذاً إسبانيا في هذا الصّدد تسلك سلوك النفاق السياسي والمتاجرة بالبعد الإنساني في غير موضعه.

إنّ الإنسانية تقتضي أن ينال المسيء عقوبة إساءته، وزعيم البوليساريو له من الضحايا الإسبان أكثر ممّا له من الضحايا المغاربة من جنوب المملكة أو من شمالها، أو من الموريتانيين، فكيف لدولة تدّعي الإنسانية، وترفض إنصاف ضحايا من مواطنيها أولاً ومن مواطني دول الجوار ثانياً؟ هذا يظهر أنّ الإنسانية في التصريحات الإسبانية هي إنسانية مفصّلة على المقاس، له اتّجاه واحد، إنّها انتقائية وتحكمية وإقصائية، فسحقاً لإنسانية بهذه المعايير المزيفة.

أخيراً، تريد إسبانيا خصوصاً والاتحاد الأوربي عموماً أن يكون المغرب جداراً لصدّ الهجرة غير الشرعية إلى أوربا، خصوصاً من زحف القادمين من دول جنوب الصحراء، دون أن تقدّم للمغرب ما يساعده على ذلك من تقنيات ومساعدات مالية ولوجستية معتبرة، والمغرب كان واضحاً وصريحاً برفضه لمنطق أن يكون دركياً لإسبانيا أو للاتحاد الأوربي، وهذا السلوك يعطي الانطباع أنّ إسبانيا لا زالت لم تستفق بعد من غيبوبة ماضيها كقوّة محتلّة لبعض أجزاء المغرب، إذ عسر عليها هضم وفهم أنّ المغرب دولة مستقلّة وقرارها السياسي بيدها.

إنّ غزو موجة المهاجرين المغاربة والأفارقة مؤخرا لسبتة، ربّما هو في نظري لفت نظر من الرباط لمدريد، لتقول لها، نحن أيضاً لدينا أوراق نلاعبكم بها، ونضغط عليكم، لذلك فهذه ما هي إلا قرصة أذن، لعلّ إسبانيا تتّعظ، أمّا إن أصرّت على التعامل العنجهي مع المغرب، ومصرّة على خلط الأوراق، والتدخل في الشؤون الداخلية للمغرب، والتطاول على المغرب من خلال المساس بقضية وحدته الترابية، فإنّ المغرب في جعبته أوراق لا شكّ أنّ تكلفتها غالية على الجارة الشمالية، التي تتحرّش بالمغرب وترفض ردّ فعله على تحرّشها، لذلك المغرب يرفض منطق الابتزاز الذي تودّ إسبانيا فرضه في قضية الهجرة، على إسبانيا حماية حدودها بنفسها، فالمغرب ليس دركيا لا لإسبانيا ولا لغيرها.

دكتور في علم الاجتماع السياسي*

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى