في الواجهةكتاب السفير

تحليل أحداث فلسطين من وجهة نظر علم النفس المرضي والاجتماعي ومن زاوية سياسية – اقتصادية

isjc

* يسين العمري – د. في علم الاجتماع السياسي والدين

في العادة تقتضي الأمور التريث قبل استخدام القلم، لأنّ تناول حدث ما أو سلوك ما يقتضي القيام بعملية تفكيكية تتطلّب بعض التروي، لحصر زاوية المعالجة والأشياء المراد تحليلها ونقدها، هل من وجهة نظر ذوقية وجمالية ذاتية؟ أو من وجهة نظر موضوعية صِرفة تخضع لمنطق الرياضيات والأعداد والإحصاء؟ أم من وجهة نظر أخلاقية؟ أو ببساطة تحليل وظيفي.

في الواقع أنّ التطورات الأخيرة في فلسطين المحتلّة في الأيام الأخيرة لا يمكن النظر إليها إلا من وجهات النظر المشار إليها أعلاه مجتمعة، فالأمر من وجهة نظر ذاتية محضة يتعارض مع القيم التي تربّينا عليها منذ نعومة أظافرنا، وهو أنّ فلسطين قضية كلّ المغاربة، وهذا أمر يتقاطع فيه المعيار الذاتي بالاجتماعي، فالمجتمع المغربي يتضامن مع قضية فلسطين منذ نشأت، وبالتالي فمن الطبيعي أنّنا كأفراد ننتمي للمجتمع المغربي نأخذ من هذا المعيار نبراساً لنا، يوجّه سلوكاتنا، ويتحكّم في شخصياتنا وتعاملاتنا.

من وجهة النظر الموضوعية الصّرفة المرتبطة بمنطق الرياضيات والأعداد، فالأغلبية الساحقة من المغاربة بل ومن العرب والمسلمين يتضامنون مع الشعب الفلسطيني، ويتبنّون قضيته، وبالتالي فقضية فلسطين تعتبر من ثقافة الأغلبية، ولا تملك الأقلية القليلة التي لا تتبنى هذا المعيار إلا الانضباط له، وإلا شكّل صوتها نشازا وكان أهل هذا الصوت الشاذ من غير الأسوياء، وهذا حال بعض المُتَصَهْيِنِين المغاربة الذين هم أكثر صهيونية من الصهاينة أنفسهم، لذلك فغالبية الشعب المغربي تلفظهم وتنبذهم وتنظر إليهم نظرة المرضى النفسيين أو على الأقل غير عاديين.

أمّا من وجهة النظر الأخلاقية والتي تجد أساسها ومرجعيتها في الدين بشكل أساسي، فلا يملك الإنسان السوي والعادي إلا أن ينحاز للشعب الفلسطيني المظلوم، بالقياس لما يتعرّض له من ظلم وقتل وتشريد، وما مذبحة حيّ الشاطئ بقطاع غزة عنّا ببعيد، حيث راح عشرة شهداء من النساء و الأطفال، دون نسيان مهاجمة المدنيين العزّل، وقتل الصحفيين وتفجير مقرّات عملهم، لتمنع العالم من مشاهدة الحقيقة كما هي دون تجميل.

أخيراً من وجهة النظر الوظيفية، فالمعيار الذي يتّبعه كلّ إنسان سوي عادي، هو اتّخاذ مرجعية وبناء تمثّل من قانون عامّ هو قانون الطبيعة، وإسقاطه على هذه الحرب القذرة الغادرة الظالمة، وعليه لا يمكن لعاقل ولا سويّ ولا شخص عادي إلا أن يرى أنّ هذه حرب غاشمة على أهل فلسطين، عرّت أسطورة مشروخة مفادها أنّ “إسرائيل واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، فالحرب المجنونة باستعمال العنف المفرط المبالغ فيه بكلّ قسوة، طالت المدنيين، وطالت أماكن العبادة، وطالت الصحفيين، ويكمن الفرق في أنّ معنويات الفلسطينيين مرتفعة، فرغم الألم وفداحة الخطب وعِظَم المصاب، تظهر حواراتهم مع الصحافة رباطة جأش، في حين معظم من ماتوا في إسرائيل ماتوا من جرّاء الرعب والهلع لمجرّد سماع صافرات الإنذار التي تطلق تزامناً مع سقوط صواريخ المقاومة الفلسطينية، وهذا شيء يعكس التكوين الذهني والشخصية والسلوكيات التي يمتلكها كلا الطرفين.

بعيداً عن علم النفس، ننتقل إلى محاولة تقديم تحليل سياسي – اقتصادي وفق المتغيّرات والثوابت على الشكل التالي:

طبعاً في أول الأمر يستحيل المقارنة بين إسرائيل بما تملكه من ترسانة أسلحة، والمقاومة الفلسطينية مهما تعاطفنا معها، لذلك فالموضوعية اقتضت الإقرار بالتفوق الكمي والكيفي لإسرائيل في التسليح، لكن هل الحروب تُخاض فقط بالأسلحة؟ أم تلعب العقيدة القتالية دوراً في الحروب؟ وهل الانتصار في الحرب يكون للأقوى أم للأكثر ثباتاً ولمن يحقّق الأهداف التي يعلن عنها؟

طبعاً لحدّ كتابة هذه الأسطر، فشلت إسرائيل في تحقيق الهدف التي أعلنته، وهو شلّ قدرة الفصائل الفلسطينية على إطلاق الصواريخ من قطاع غزة، وتعطيل منصّات إطلاق الصواريخ، واغتيال أهم قادة حماس، وهذا لم يحصل، فالرشقات الصاروخية لا تزال إلى الآن مستمرّة، بل وبكثافة أكبر ويتمّ إمطار المدن الإسرائيلية يوميا بأعداد هائلة من الصواريخ المختلفة، ولم يتمّ لحدّ الآن استهداف قادة الصّف الأول من حركة حماس، مثل محمد ضيف قائد الجناح العسكري، أو إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي، أو غيرهما من كبار قادة الحركة، بالمقابل أعلنت الفصائل الفلسطينية أنّها ستردّ على أيّ قصف بقصف مضادّ في محاولة لتكريس معادلة جديدة للردع، وهو ما يبدو أنها ناجحة فيه لحدّ الآن، لكن هذا لا يرقى للإقرار بالقول بانتصار طرف على حساب آخر، فالكلّ خاسر، وأخسر الأخسرين الشعب الفلسطيني الأعزل بالدرجة الأولى، والمدنيون في إسرائيل أيضاً. طبعاً لا أسوّي بين الضحية والجلّاد هنا، فالمدنيون من الطرفين بالنسبة لي ضحايا، لكن على المستوى السياسي لا يمكن لي أن أساوي بين محتلّ ومقاوم.

هذه التساؤلات ستقود للكشف عن مجموعة من الثوابت والمتغيرات، ولنبدأ بالمتغيرّات:

1- على غير العادة، فإنّ الاقتصاد الإسرائيلي تكبّد كأضرار مباشرة في الأربعة أيام الأولى من الحرب فقط، مليار ونصف مليار شيكل إسرائيلي، أكثر من أربعمائة مليون دولار، دون حساب التكلفة الكبيرة للأضرار غير المباشرة التي ستعاني منها الخزينة الإسرائيلية، فتعطيل خدمات مطار بن غوريون مثلاً، وتعطيل التنقل عبر السكك الحديدية، وإغلاق المحلات التجارية الكبرى، وتعطّل حركة السياحة … الخ، وهذه نصف خسائر إسرائيل في حرب 2014 على غزة، وبالتالي فإنّ الرشقات الصاروخية الفلسطينية، ستكون لها انعكاسات سلبية حتمية على الاقتصاد الإسرائيلي.

2- من غير المألوف أيضاً أن نشاهد عبر شاشة التلفاز شوارع تلّ أبيب وغيرها من كبريات المدن الإسرائيلية خالية على عروشها، وكأنّما أصابت ريح صرصر عاتية كالتي أصابت قوم ثمود، والأكثر من هذا بات الفلسطينيون انطلاقاً من غزّة قادرين على قصف تل أبيب والقدس ومعظم مدن وبلدات إسرائيل ومستوطناتها في الضفة الغربية، وبالتالي امتلكوا القدرة على تحويل ليل الإسرائيليين إلى نهار، وهذا أمر كنّا نألفه أكثر عندما تقوم به إسرائيل ضدّ الفلسطينيين، فباتت المعادلة الجديدة القصف مقابل القصف.

3- تسليح الفصائل الفلسطينية عرف تطوّراً نوعياً، آخره إطلاق حركة حماس لصاروخ “عيّاش 250” على مطار مداه يصل إلى 250 كيلومتر، قصفت به مطار رامون إيلات، وكذا دخول الطائرات المسيّرة المتفجّرة للخدمة، وتصريح قادة الفصائل الفلسطينية بقدرتهم على قصف تلّ أبيب يومياً لمدّة 6 أشهر.

4- من الانقسام الفلسطيني الذي أدّى لسيطرة حماس على قطاع غزة سنة 2006، لم يحصل توحّد فلسطيني كما هو الشأن عليه هذه الأيام، فقد هبّ كلّ الفلسطينيين لدعم صمود سكّان حيّ الشيخ جرّاح بالقدس ضدّ محاولات طردهم وتشريدهم من بيوتهم، وما أعقبه من اعتداءات على سكان القدس العرب، وصلت إلى حدّ اقتحام المسجد الأقصى ليلة القدر بما لها من رمزية عند المسلمين (السبب المباشر في الأحداث الحالية)، واستمرّ هذا الموقف المتوحّد خلال العدوان على غزّة، فتظاهر الفلسطينيون في الضفة الغربية تظاهرات عنيفة أدّت لسقوط 11 شهيداً، وكذلك فعل السكان الفلسطينيون في أراضي 1948.

5- وزير الدفاع الإسرائيلي بيني كانتس يستجدي الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلّة لعدم التصعيد.

6- فشل منظومة “القبّة الحديدية” في اعتراض صواريخ المقاومة الفلسطينية، وهو ما هزّ في الصميم سمعة تلك المنظومة التي كانت إسرائيل تضفي عليها أوصافاً أسطورية، وهو ما ساهم كذلك في هزّ نفسية ومعنويات القادة والجنود الإسرائيليين.

كانت هذه إجمالاً أهمّ المتغيّرات في تقديري التي عرفتها الحرب الحالية، ومنها أنطلق لإبراز بعض الثواب على الشكل التالي:

1- أول تلك الثوابت حجم الوحشية والعنف الذي تصبّه إسرائيل على المدنيين العزّل، وحجم الدمار الهائل الذي تخلفه تلك الهجمات الهمجية التي ترقى إلى وصفها بجرائم حرب أو إبادة جماعية وفق معايير المحكمة الجنائية الدولية.

2- الموقف الأمريكي الثابت الذي يقرّ بحقّ إسرائيل على الدفاع عن النفس، مقابل اعتبار حركتي حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما من الفصائل الفلسطينية المقاومة حركات إرهابية ومخرّبة، وبالتالي فالموقف الأمريكي مهما كان اسم أو حزب الجالس في البيت الأبيض يبقى هو دعم إسرائيل الدائم، وطبعاً أمريكا رفضت قبل أسبوع تقريبا من الآن، دعوة كانت كلّ من النرويج وتونس وذلك باعتبارهما عضوين غير دائمين في مجلس الأمن، قد وجّهتاها لانعقاد جلسة طارئة وعاجلة لمجلس الأمن للبحث في تطوّرات الأحداث بفلسطين، وحتى لو انعقدت جلسة أو جلسات فحقّ النقض الفيتو دوماً تضعه أمريكا في وجه أيّة قرارات قد تدين إسرائيل.

3- التضامن المطلق وغير المشروط من الشعوب العربية والإسلامية مع أشقائهم الفلسطينيين، بمختلف أنواع الدعم الممكنة انطلاقاً من الدعاء بالنصر إلى الخروج في مظاهرات (لبنان، الأردن، العراق) إلى أشياء أخرى رمزية كالتدوينات الفايسبوكية ووضع صور لعلم فلسطين أو للمسجد الأقصى في بروفايلات فايسبوك وواتساب إلى غير ذلك، ككتابة مقالات صحفية أو شعر أو أعمال فنية غنائية أو رسوم وكاريكاتورات تعبّر عن التضامن مع فلسطين، والإعجاب بقصف تلّ أبيب أو ما شابه.

4- الصمت المطبق والرهيب لمنظمات حقوق الإنسان الدولية والتغطية الإعلامية الغربية الانتقائية والتحكمية كلّما تعلّق الأمر بإسرائيل، في محاولة لإظهار الدولة العِبرية بمظهر المظلوم البري والحَمَل الوديع، مقابل شيطنة الفصائل الفلسطينية وإظهارها بثوب الذئب.

5- اكتفاء معظم الحكومات العربية والدولية بالتنديد والشجب والإدانة عبر بلاغات تغلب عليها لغة الخشب، وألفاظ منمّقة وتلوينات لفظية تحمل نوعاً من المواساة، بل رصدنا منع العديد من الدول الغربية وعلى رأسها فرنسا لمظاهرات داعمة لفلسطين.

الخلاصة في تقديري من هذا العدوان على الشعب الفلسطيني، هو أنّه إن لم ينعم الفلسطينيون بحقّهم المشروع والعادل في الأمن والأمان والسلام، فكذلك لن ينعم به الإسرائيليون وقد باتت صواريخ المقاومة الفلسطينية تطال جلّ مدنهم وبلداتهم وقراهم، قريبها وبعيدها عن غزّة، وختاماً أدعو الله عزّ وجلّ أن يحلّ السلام والأمن وتنتشر السكينة والطمأنينة على تلك الأرض المباركة حيث ثالث الحرمين الشريفين وأولى القبلتين ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلّم وأرض الأنبياء.

ملاحظة على هامش الموضوع:

طبعاً بتوجيه من جنرالات الجزائر وإرهابيي البوليسايو، فإنّ اللجان الإلكترونية الذبابية التابعة لهم، وأبواقهم الإعلامية الموجّهة وبعض الأقلام المأجورة المؤدّى لها على شاكلة المسمّاة إعلامية زوراً وبهتاناً “خدجة بن قنة”، لا يمكن أن يفوّتوا حدثاً مثل العدوان على الشعب الفلسطيني، دون أن يحاولوا بكلّ ما أوتوا من قوّة النيل من صورة المغرب، فلا يكاد المرء يطّلع على التعليقات أسفل أيّة مقالة أو فيديو له علاقة بالأحداث في فلسطين، إلا وتجدهم يتركون نقد المعتدي الصهيوني، ويركّزون بالمقابل على المسّ بصورة المغرب ومحاولة تشويه سمعته مع الأشقاء العرب والفلسطينيين بالخصوص، بحجّة أنّ المغرب طبّع مع إسرائيل في حين أنّ الجزائر –في زعمهم- مع فلسطين ظالمة ومظلومة، ويحاولون بكلّ خبث ربط قضية فلسطين العادلة والعادلة جدّاً بقضية ملفقة ومزوّرة ومختلقة هي قضية الصحراء المغربية، ويقارنون حركة حماس التي تقاوم احتلالا غير شرعي لبلدها، بجبهة البوليساريو التي تحاول الانفصال بإقليم ليس لها لتسلّمه لمن لا يستحقّه، إلى غيره من المقارنات الفاسدة والظالمة، وواقع الأمر أنّ الجزائر في الحقيقة تساند فلسطين بقوّة، ولكن فقط باللسان والدّعاية، لكن في الميدان وفي التطبيق لا تصرف الجزائر ديناراً واحداً على قضية فلسطين، وحتى في الإعلام الجزائري تذكر فلسطين على استحياء وفي مناسبات مثل ما يقع الآن من أحداث عنيفة ضدّ الشعب الفلسطيني، ولا تمثّل قضية فلسطين همّاً دبلوماسياً للساسة الجزائريين، لأنّ كلّ نقود الجزائر وإعلامها ودبلوماسيتها موجّهة لدعم البوليساريو فقط لا غير، وبالتالي فإنّ خرافة “مع فلسطين ظالمة أو مظلومة” التي اخترعها الراحل هواري بومدين (اسمه الحقيقي محمد بوخرّوبة)، ليست سوى شعار زائف غير حقيقي، أمّا المزايدة على المغرب في دعمه لقضية فلسطين، فالجزائر في هذا الصدد مثل العاهرة التي تعطي محاضرات في الشرف، فالمغرب وله الشرف هو رئيس لجنة القدس، وله مشاريع وتمويلات قارّة وثابتة في القدس، وله مستشفى عسكري في غزّة يقوم بخدمات طبية واجتماعية يومية لفائدة القطاع، واليوم أعطى العاهل المغربي أوامره وتعليماته لتزويد سكان قطاع غزة والضفة الغربية بمساعدات إنسانية غذائية وطبية عاجلة لتخفيف آثار هذه الحرب الجائرة التي يتعرّض لها إخواننا في فلسطين، كما أنّ المغرب من أوائل الدول التي عبّرت عن موقفها الرافض للعدوان الإسرائيلي على القدس وقطاع غزة والضفة الغربية، وهذه الأشياء لا يمنّ بها المغرب لأنّها واجب، حتى إنّ الإعلام لا يكثر من ذكرها لأنّها أمور عادية، فماذا أعطت الجزائر للفلسطينيين غير الكلام، إن جنرالات الجارة الشرقية ليس لهم من قضية فلسطين إلا لسان طويل جداً وذراع بارد جدّاً، وتلك كارثة فعندما لا تطابق الأفعال الأقوال، فأنت مباشرة أمام إنسان ضعيف وعاجز، في النهاية أقول لقادة الجزائر وأبنائهم غير الشرعيين من البوليساريو: “إذا أردتم أن نعرف بكلّ حيادية من يدعم فلسطين حقيقة، فليضع كلّ منّا فاتورته فوق الطاولة لنتحاسب عوض هذه التصرفات الصبيانية، غير ذلك فهو مجرّد ثرثرة وتحرّش”.

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى