قراءة في مفهوم الحصانة البرلمانية
* د. يسين العمري
ممّا لا جدال فيه أنّ القانون ما هو إلا مجرّد تعبير عن الفكر السياسي، ولكن بمجرّد أن يتحوّل الفكر السياسي إلى أحكام قانونية، فإنّ السياسي (الرجل السياسي كمصدر للفكر)، يخضع للقانوني، وإذا تغيّر رأيه بتغيّر الظروف، وهذا شيء طبيعي، أصبح لزاماً عليه أن يغيّر الحكم القانوني الذي سوف يخضع له، وهذا هو جوهر ما يهيمن على الساحة الفكرية من فلسفة دولة الحقّ والقانون.
بالنسبة للحصانة، هناك إجماع تقريباً على أنّها تثير جدلاً واحداً، هو تعريفها وماهيتها، وهذا في تقديري هو ما يطلق عليه السهل الممتنع، فأيّ شخص تسأله ما هي الحصانة؟ يجيب بداهة وعفويا أنّها تعني عدم إدانة البرلماني وعدم الحكم عليه أو وضعه في السجن.
وإذن هناك صورة نمطية عن هذه الحصانة، وبالتوازي معها هناك نقاش تقني يجد أساسه أو منطلقه في الجدلية القانونية بين الفكر السياسي والفكر القانوني، وكأنّ الأول الذي هو من يكوّن الثاني ويشكّله، يريد أن يتملّص من الحكم الذي أصدره، وبالمقابل كأنّ الثاني هو الذي يريد أن يردّ الفعل زجراً لمن يهيمن عليه.
وإذا حاولنا تعميق الفكر في هذا الموضوع، لا بدّ من اللجوء إلى تصوير أو تشبيه: فأعضاء البرلمان هم من يمثّلون الأمّة (يمثّلون الشخص المعنوي في الفقه الإسلامي) في الممارسة أو إعمال الفكر السياسي، فلا بدّ أن يمثّلوا الأمّة التي اختارتهم والمواطنين الذين انتخبوهم واختاروهم لتدبير شؤونهم في قطاع معيّن، لأنّ ضرورة مبدأ فصل السلطات تقتضي هذا، بحيث يمثّلون الأمّة في التعبير عن رأيها وإرادتها أو إقرار إرادتها، وبعد ذلك تأتي الأدوار السياسية الأخرى، وإذن فالحصانة البرلمانية تستمدّ قوتها وشرعيتها وحجيتها من الصفة التمثيلية التي يكتسبها البرلماني (تمثيل المواطنين والتعبير عن إرادة الأمّة).
لنتّفق إذن أنّ البرلماني يفترض فيه أن يجسّد رأي الأمّة وفكرها، وهو لسان حال المواطن أو هكذا ينبغي له أن يكون، بينما السلطة التنفيذية تمثّل كذلك الأمّة، وكأني بها هي يد الأمّة التي تضبط شؤونها ورِجل الأمّة التي تقودها وتتحرّك بها، وتعيش بها مادياً، أمّا القضاء فهو سوط الأمّة وعنانها وزمامها الذي ينبّه كلّ واحد إلى ما حكم به على نفسه من القواعد والأحكام.
بعد هذه الشروحات المبسّطة، أطرح الإشكال التالي: إذا كان البرلماني يمثّل الأمّة، والتمثيل في النظريات القانونية يمكن أن يكون بواسطة وكيل، فهل هذا يعني أنّ الأمّة قاصرة حتى يكون لها وكيل أو نائب؟ علماً أنّه في تقديري ليس هناك أرشد من الأمم، وتدعم رأيي هذا النظريات السياسية الغربية التي تلقّيناها في كليات الحقوق، حيث تكون السيادة للأمّة، وكذلك في الفقه الإسلامي فالسيادة والحكم لله، وقد أقرّ الله بهما حقوقاً متعدّدة للأمّة وللجماعة.
جواباً عن هذا التساؤل، الأمّة ليست قاصرة حتى يكون لها وكيل، لكن ماذا يبقى من صفات يمكن أن نضفيها على البرلماني للتوصّل للطبيعة القانونية للحصانة؟
البرلماني لا يمكن إلا أن يكون موظفاً لدى الأمّة، جهازاً، عضواً من جسدها، ومن المستحيل الفصل بين الذوات، بالتالي إذا سُبّ أو قُذِف أو أُهين البرلماني أو أُسيء إليه في إطار تعبيره عن رأي الأمّة باعتباره لسانها، فبالتالي من يُسَبُّ ومن يَسِبُّ هنا؟ الأمة هي من تُسَبُّ ومن تَسُبُّ في نفس الوقت، لأنّ البرلماني جزء منها، ومعبّر عن رأيها.
هذا إذن هو كنه وجوهر وفلسفة الحصانة، إذ يستحيل متابعة برلماني عمّا يعبّر عنه من رأي بانفعال وقلق في ممارسة مهامّه، وكلّ ما هو خارج عن هذا لا يمكن اعتباره حصانة، فالحصانة يقصد بها المناعة لمزاولة دور لسان الأمّة، وهذا يقرنها بمفهوم العزّة، بحيث الأمّة لا يمكن أن تمسّ. لكن ماذا لو ارتكب البرلماني أعمالاً إجرامية؟ هل يستفيد من الحصانة؟
أمّا إذا ارتكب البرلماني جريمة، وثبتت في حقّه حُكم عليه حكما نهائياً، فالمشرّع في عدّة دول وجد نفسه أمام اختيارين إمّا نزع الحصانة عنه من طرف البرلمان، وهذا الأصوب والمنطقي والمعمول به في أغلبية الدول الغربية والعربية، وتنفيذ العقوبة الصادرة ضدّه، أو هناك في دول أخرى انتظار انتهاء فترة الحصانة ثمّ تنفيذ الحكم ويوجد هذا في بعض الدول الآسيوية والأمريكية اللاتينية.
دارس ومهتمّ بالقانون المقارنه *