الفساد والانتقام..
محمد هرار _ الدنمارك
بقي الخطاب السياسي الدنماركي يعتقد لسنين، أن المملكة ونظامها الديمقراطي – المحكم – بخير وفي نمو متسارع، وأن أمور التدبير الإداري تسير بشكل سلس وممتاز، وأنّ ذلك فيه من الواقع ما يفي بالفعل. لكن المتابع يلاحظ من حين لآخر ما يجري على الأرض من فضائح واختلالات لوقائع ومظاهر مشينة مذهبة للزعم بالافتخار بمنظومة القوانين المترابطة المحكمة، ومقياس الثقة الزائد بالنفس. إذ تـتـكرر مأساته بشكل خطير وغير مدروس منذ عقود متوالية. وتفضح هذه المظاهر – وإن بقيت كما يعتقد البعض على وجه الشـذوذ – مزاعم استحالة الاختراق.
ليست المشكلة في الوقائع والظواهر والأحداث، وما ارتبط بها من اختلاسات مالية مدوية؛ ولكن المعضلة تكمن في معالجة وترميم ما يُهدم بمعول النصّ القانونيّ الذي كان قد منح ثقة عمياء في التعامل جرأ بعض الموظفين في القطاعات العمومية والخاصة على الذهاب بالثقة إلى الاختلاس والإساءة. فقد كان آخر ما استيقظ عليه الرأي العام الدنماركي، من خلال وسائل الإعلام المختلفة؛ اختلاس موظفة لمبلغ خيالي، وبطريقة “قانونية” استغلت فيها منسوب الثقة الممنوح لها ولأمثالها. فقد اختلست عن طريق التحويلات البنكيّة “القانونيّة”، مائة وأحد عشر (111) مليون كرون دنماركي… حولتها من موطن عملها، والناس يظنون بها خيرا بثقة أرادها المشرع في البلاد أن تكون أساس التعاملات جميعا. تفعل ذلك ببرودة دم استثنائية – مستفيدة من الثّقة – في حين، يتجرع الفقراء والمحتاجون والمعوزون، مرارة الحرمان حتّى أن البعض لا يجدون مسكنا يؤويهم، في بلد تصل درجة برودة الطقس فيه إلى ما تحت الصفر في فصل الشتاء.
كثيرة هي عمليات الاختلاسات والسرقات للمال العام في دولة تُعتبر بحقّ، قمّة في الرقي والنّظام والانتظام والانضباط السلوكي الديمقراطي، تماشيا مع القانون العام. غير أن تلكم السرقات والاختلاسات تواجه – للأسف – بنظام ترميم يحاول إغلاق الثغرات، بزيادة التشديد على الفئات الضعيفة والطبقة المهمشة المهلهلة في المجتمع الدنماركي. فيكون نظام التكافل مثلا مستهدفا، حتّى تتعثّر المساعدات الاجتماعية بمفعول العقبات الكثيرة الموضوعة في طريقها للوصول إلى المستحقين.
تصبح هذه الطبقة مستهدفة عند حدوث النوازل؛ فتعدل النّصوص القانونية وتشدد عليها هي دون غيرها، ليزداد الضالعون في الفساد منعة ويستمر هروب الحكومات والساسة إلى الأمام بما يخدم مصالح الكبار دون غيرهم، ويزيد من عمليات التعميّة على نفوذ المسؤولين، أجهزة الدولة العميقة. فيصعب الوصول إلى الأعيان المحليّين والشخصيات القوية النافذة. يتضامنون تِلقائيا فيما بينهم، ويمارسون نوعا من ”العصبية والممانعة“ ويحمون بعضهم بعضا، محاولين ما أمكن أن لَا تطبق علي أي شخص منهم قوانين الشـفافية، أو المراقبة، أو المحاسبة، أو المعاقبة. لأنهم يدركون أن تعرض واحد منهم للمحاسبة أو المعاقبة، يعني لا محالة سحب بقية حلقات السلسلة من المنتفعين والمتمعشين والمتعيشين من الغموض وعدم الشفافيّة.
وهذه بلوى ومعضلة وآفة خطيرة تعم غالب الدول، إن لم يكن جميعها دون استثناء. لذا فإن السلطات السياسية تستغل نفوذها متلاعبة بنصوص القانون، بهدف الانتـقام من الطبقات المسحوقة اجتماعيّا، وهو ما يؤكد “هروبها إلى الأمام، بدل أن تنزل بمن عمل ودعم وسهل وتستر.. لعمليات سرقة واختلاسات وتضييع المال العام.
وبذلك، يكرس ويمارس كثير من السياسيين عمليا وبشراسة وجشع، تعميق النظام السياسي القائم على ”الطبقية“ ضد الفقراء والمحتاجين والمعوزين، قافزين على الصور القصير، ونافين من خلال تصريحاتهم في آن واحد؛ أن صراعا مثل هذا مستحيل الوجود على أرض المملكة. فتستمرّ بذلك الحكومات المتعاقبة منذ 2001 في التماهي مع أحزاب اليمين المتطرف، خلال زمن ممتد في ابتكار وإقامة قوانين قاهرة للطبقات المسحوقة، ليزيدها فقرا وسحقا ومعاناة، ثم لا يجد (السياسي المتغطرس) خجلا بعد ذلك في التعريض – بعمليات الاندماج – وسوء استجابة الوافدين، أجانب ولاجئين ما سماهم في وجود المجتمع الموازي، غير المراعي لتقاليد وعادات المجتمع الأصيل، ثم يدعو بعد ذلك دون حرج إلى محاربة هذا الموازي وإخراج ساكنيه من بيوتهم، ولربما من مدنهم في إطار حملة محاربة السكنات الشعبية “الغيطو” Ghetto إلى مصير مجهول قد ينبئ بسوء المصير…
وقد كان على السياسي الدنماركي الحاذق – حماية المجتمع من السلبيات – والعناية الفائقة بالتعليم الجيّد المنتج، والعمل على زيادة وتطوير الأطر الطبية من أجل العلاج السريع لمن هم على قائمة الانتظار، والعناية أكثر بالمسنين، والشباب، وإلى إحداث فرص الشغل للجميع دون تمييز. هذا التمييز الذي بات يركز – خلاف المبادئ – على اللون والدين والخلفية الإثنية، وغيرها من العوامل مقارنة على الأقل بدول الجوار، حتى يعيش المواطن “أجنبي وأصلي” في الدنمارك، بكرامة مشرفة.
هذا وأحسب أنّ كل سياسي حر، لا يعمل على هذه المسلمات، هو سياسي فاشل ومخلّ بمبادئ المملكة والاتحاد الأوروبي بكامله، وعلى كلّ مخلص لهذه البلاد الانتباه إلى مفاسده وكفه عنها عاجلا غير آجل، خدمة للدنمارك ولأهلها الذين كانوا في أصلهم على العموم طيبين…