السفير 24 – بقلم: عزيز لعويسي
الصحافة عادة ما تكون مقرونة بتلك “السلطة الرابعة”، التي تنضاف إلى السلطات التقليدية الثلاث (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، لما تضطلع به من أدوار متعددة الزوايا، يتقاطع فيها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتنويري والتوعوي والتأطيري …، وهذا ليس معناه، أن مداد السلط ينضب تماما أمام حضرة صاحبة الجلالة، أو أن مهنة المتاعب، هي آخر الحلقات في قلادة السلط أو آخر عنقودها؛
في هذا الصدد، اهتمامنا بحقل الأرشيف، وكتاباتنا عنه منذ ما يزيد عن الخمس سنوات، والتي كان من ثمارها ميلاد مؤلفنا “مسألة الأرشيف بالمغرب.. تراث وحداثة” بشراكة مع مؤسسة أرشيف المغرب، يجعلنا نجازف في توصيف الأرشيف بالسلطة الخامسة، وهذا التوصيف غير المسبوق في الدراسات والأبحاث الأرشيفية، ليس من باب الترف الإبداعي كما يتخيل البعض، ولا من زاوية إحداث ما يمكن نعته “بالبوز الأرشيفي” بلغة العالم الافتراضي، كما قد يعتقد البعض الآخر، بل هو اعتراف ليس فقط بقيمة الأرشيف التراثية، بل وبقوته في إثبات الحقوق والمرافعة والدفاع والمحاسبة والزجر والإدانة والجزاء …
سلطة الأرشيف، تحضر ابتداء في قدرته على إثبات حقوق الدولة فيما يتعلق بحدودها الحقة، بناء على ما يتيحه من حجج وأسانيد تاريخية وجغرافية وقانونية وروحية، سواء تعلق الأمر بمدينتي سبتة ومليلية والجزر المغربية المحتلة، أو بالصحراء الشرقية التي انتزعتها فرنسا الاستعمارية بقوة الواقع، وإلحاقها بالجزائر الفرنسية، في سياقات تاريخية، طبعها ضعف الدولة المغربية، واشتداد حدة التكالب الإمبريالي على أراضيها، وذات الحجج والأسانيد، تبقى السلاح المشروع الذي يلزم أن يرفعه المغاربة قاطبة، دفاعا وترافعا عن مغربية الصحراء، بالموازاة مـــع العمل الرصين الذي تقوم به الدبلوماسية الرسمية؛
حقوق الدولة في ترابها المحتل أو المسروق أو المتنازع عليه، توازيها حقوق أفراد وجماعات، تقتضي الاحتكام إلى سلطة وثائق الأرشيف، التي قد تكون سند ملكية أو عقد بيع وشراء، أو عقد إراثة، أو عقد هبة أو وصية، أو عقد نكاح أو عقد شراكة أو شهادة أو شهادة طبية…، ووثائق من هذا القبيل، هي مادة القضاء وسنده وبوصلة أحكامه، سواء تعلق الأمر بإثبات الحقوق أو فض النزاعات، أو إدانة مقترفي الأفعال والتصرفات المعاقب عليها قانونا؛
سلطة الأرشيف هي مدخل أساس لمحاربة الفساد المالي والسياسي والاقتصادي ..، وقناة لا محيد عنها لتخليق الحياة العامة وكسب رهانات الحكامة الجيدة الرشيدة، وما يرتبط بها من نزاهة ومسؤولية ومساءلة ومحاسبة وجزاء، وبهذه القوة، يمكن أن يكون الأرشيف، مساهما حقيقا ليس فقط، في دعم الجبهة الداخلية وتمتين اللحمة الوطنية، بل وفي استرجاع الثقة في الدولة والقانون والمؤسسات، وتحقيق التحول التنموي المأمول، في سياق ما يعيشه مغرب اليوم من تحول وتغير، يقتضي تملك قيم المواطنة الحقة والانخراط المسؤول في خدمة الوطن وإشعاعه وبهائه؛
لكن لا يكفي أن نعترف للأرشيف بهذه السلطة العرضانية، ولا يكفي أن نعدد حسناته كتراث وحداثة، وبتعبير آخر، فالأرشيف لن يرتقي إلى مستوى تلك السلطة المزعجة للجميع، ما لم يتم الاعتراف به، والإقرار بدوره المحـوري في إحداث ما تتطلع إليه الدولة من تطوير وتحديث، ومن تطهير وتخليق، وتحييد لكل المخاطر المغذية لبؤر الفساد بكل تمظهراته، وفي المجمل، فالأرشيف سيبقى مقرونا بتلك الوثائق منتهية الصلاحية، التي ينتهي بها المطاف إما بالحفظ، أو الإتلاف وفق الضوابط القانونية. والارتقاء به إلى مستوى السلطة، يبقى رهينا بمدى حضور الوعي السياسي والمجتمعي، بالقيمة التراثية والحداثية للأرشيف، ومدى حضور الإرادة السياسية، التي تجعل من هذا الأرشيف، “سلطة خامسة”، دافعة في اتجاه النزاهة والشفافية والتخليق والتطهير والتغيير والتجويد، وبين هذا وذاك، بمدى العناية بمؤسسة أرشيف المغرب، على مستوى الموارد البشرية والمادية واللوجستية، لتضطلع بأدوارها كاملة، كسلطة وصية على الأرشيف العمومي.