السفير 24 – اسماعيل الحلوتي
مرة أخرى ولا نعتقد أنها ستكون الأخيرة، تبرهن حكومة عزيز أخنوش رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، أنها لم تأت لتلبية انتظارات الجماهير الشعبية وإرساء أسس الدولة الاجتماعية وفق ما يدعو إليه عاهل البلاد محمد السادس، والحرص على عدم الوقوع في أخطاء الحكومتين السابقتين بقيادة حزب “العدالة والتنمية”، وإنما خلافا لذلك جاءت لإكمال ما بدأه رئيس الحكومة الأسبق عبد الإله ابن كيران وخلفه سعد الدين العثماني، من حيث تقويض القدرة الشرائية والإجهاز على ما تبقى من مكتسبات اجتماعية.
إذ أنه وبعد تصاعد موجة غلاء الأسعار التي أضرت كثيرا بالقدرة الشرائية للطبقات الفقيرة والمتوسطة، وبعد تسقيف وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة السن في 30 سنة، للراغبين في اجتياز مباراة ولوج أسلاك التعليم، مما فوت الفرصة على آلاف الشباب المغاربة خريجي الجامعات وحطم آمالهم وأحلامهم، ها هي الحكومة في شخص وزارتي الصحة والحماية الاجتماعية ووزارة المالية، تتهيأ لإنهاء مهام الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي “CNOPS” الذي يدبر التغطية الصحية بالقطاع العام منذ أكثر من سبعة عقود، وإدماجه في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي “CNSS”.
ففي خطوة مباغتة وصادمة أقدمت الحكومة على تقديم مشروع قانون تحت رقم 23.54، يرمي إلى تغيير وتتميم القانون رقم 00.65 المتعلق بالتأمين الإجباري عن المرض وسن أحكام خاصة، وذلك من خلال اعتماد هيئة تدبير واحدة لأنظمة التأمين الإجباري الأساسي عن المرض، وإلغاء نظام التأمين الإجباري الأساسي عن المرض الخاص بالطلبة. وبناء على المذكرة التقديمية لمشروع القانون، فإن مهمة النظر في جميع المسائل المتعلقة بنظام التأمين الإجباري الأساسي عن المرض في القطاعين العام والخاص أسندت إلى مجلس الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، بالإضافة إلى عدة إجراءات أخرى، ومنها مثلا دمج المستخدمين المرسمين والمتدربين والمتعاقدين والمزاولين لمهامهم بالصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي “كنوبس” ضمن مستخدمي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
وهو القرار الذي خلف حالة من القلق في صفوف المنخرطين بالصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي وأثار ردود فعل غاضبة، وخاصة بالنسبة للمركزيات النقابية، التي سارعت إلى استنكار قيام الحكومة بصياغة هكذا مشاريع قوانين بشكل انفرادي وخارج مؤسسة الحوار الاجتماعي، وإدانة استهتارها بمصالح ما لا يقل عن ثلاثة ملايين من المؤمنين وذوي الحقوق المنخرطين في “كنوبس”، فضلا عن الاستخفاف بمصير مئات المستخدمين والأطر العاملين في هذه المؤسسة الاجتماعية. فأين نحن إذن مما تدعي الحكومة من التزام بالحوار الاجتماعي حول جميع الملفات الاجتماعية الكبرى؟
فالحكومة باتخاذها قرارا أحاديا تكون ليس فقط أقدمت على خرق سافر لأسس الحوار الاجتماعي، بل إنها اتخذت كذلك قرارا منافيا للمبادئ الدستورية التي تفرض عليها اعتماد مقاربة تشاركية في سن السياسات العمومية والاجتماعية، حيث لا يعقل أن تتجاهل حقوق أكثر من 3 ملايين مستفيد من التغطية الصحية داخل هذه المؤسسة، بين مؤمنين وذوي الحقوق، بالإضافة إلى عدم مراعاتها لمصالح مئات المستخدمين والأطر، وهو ما يمكن اعتباره مسا خطير بحقوق عموم المنخرطين والمستخدمين.
لذلك اعتبر المجلس الإداري للصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي “كنوبس” أن مشروع القانون حول دمج أنظمة التأمين الإجباري عن المرض دون استشارته، إنما يندرج في إطار تهميش وإقصاء صندوق التعاضديات من الإصلاحات المزمع مباشرتها، ولا ينسجم مع الإشراك الوارد في القانون الإطار 21.09 المتعلق بالحماية الاجتماعية، ولا مع المكانة الدستورية التي يحظى بها القطاع التعاضدي.
وفي ذات السياق عقد رؤساء تعاضديات القطاع العام وشبه العام والجماعات الترابية اجتماعا طارئا يوم الأربعاء 18 شتنبر 2024 قصد تدارس تداعيات مشروع القانون 23.54 وآثاره السلبية على مشروع تعميم التغطية الصحية الشاملة ككل، وحقوق المستفيدين من خدمات “كنوبس” والتعاضديات ومستخدميها، الذين ساهموا بفعالية في إنجاح نظام التأمين الإجباري الأساسي عن المرض في القطاع العام وشبه العام، وقد خلص الاجتماع إلى أن المشروع: يتعارض مع التعليمات الملكية السامية الرامية إلى تطوير النظام التعاضدي، ويخرق مقتضى الفصل 31 من الدستور الذي نص على الحق في الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، والتضامن التعاضدي أو المنظم من لدن الدولة. وأجهز كذلك على النظام التعاضدي الذي يوفر التغطية الصحية لأطر وموظفي وأعوان الدولة منذ 1919 وإلى غاية 2005…
إن أشد ما بتنا نتخوف منه هو أن يقود استهتار الحكومة بالمسؤولية إلى تهديد السلم الاجتماعي، جراء ما تتخذه من قرارات تعسفية وإجهاز على أهم المكتسبات الاجتماعية، ويتضح ذلك من خلال ارتفاع منسوب الاحتقان الاجتماعي إثر مسلسل غلاء الأسعار وارتفاع معدلات الفقر والبطالة كما تشهد بذلك “أحداث الفنيدق”، وما تعرفه كليات الطب والصيدلة وطب الأسنان والمحاكم من إضرابات متواصلة منذ حوالي سنة. مما يقتضي مراجعة قراراتها الجائرة، والسحب الفوري لمشروع قانون إنهاء مهام “كنوبس”، وفتح حوار جاد ومسؤول داخل مؤسسة الحوار الاجتماعي حول جميع الإشكاليات المطروحة، لضمان تنزيل منظومة الحماية الاجتماعية، وفق ما يريد لها عاهل البلاد.