في الواجهةكتاب السفير

مغرب في قاعة الإنتظار

مغرب في قاعة الإنتظار

isjc

السفير 24 – أنيس الداودي

لم تشفع إنتصارات المغرب في كأس العالم الأخيرة بقطر، في إدامة أجواء الفرح وصور البهجة والإحتفالات، والشعور بقيمة الفوز، إذْ مع أول هزة أرضية تصيب البلد دخل المغرب نفقا مظلما تحت كتبان الاتربة في قاعة الإنتظار، وقبلها استفاق المغاربة على مشهد بعض السيول الجارفة تُغرق بعض المدن الكبرى مع أول قطرة شتاء.

وبعد ان كان البلد بأكمله يصلي ويرفع الادعية في انتظار قطرة غيث، دفع في لحظة، تحت وقع السيول وقوة المياه المنجرفة، ثمن انتظاره.

ورغم ذلك فإننا من جديد سنصلي وندعو لقدوم الشتاء وسوف ننتظر ما قد يحصل.

دائما ما كانت الشتاء تهطل وفي كل عام كنا نغرق، ما مرَّ عام وليس في البلد أحياء موتى فوق الأرض يترحمون على الموتى الأحياء تحت الأرض.

لا يصح إلا الصحيح، عبارة تعوَّدَ عليها المغاربة عند الكوارث الطبيعية التي تفضح هشاشة البُنى التحتية، ومعها هشاشة الشعارات البراقة التي ترفعها الحكومات والمسؤولين في انتظار ان يصدقها المواطنون لتغطية الشمش بالغربال وإطالة أمد الإنتظار.

الحقيقة لا تنتظر منا أن نُلبسها تنورة لتستر عورتها وإنما الى مرآة تعكس وجهها فترصد عيوبها وتعد نواقصها.

حين خطب صاحب الجلالة في شعبه في ذكرى عيد العرش 2023 وتحدث عن قيمة الجدية والمثابرة في العمل لاستحقاق التتويج، كان الخطاب واضحا.. ألا ننتظر المعجزات من العاجزين والمتقاعسين. وككل مرة فإننا لا ننتظر منهم اكثر من ذلك.

قبل ولحظة الخطاب الملكي كان المواطنون في قاعات الانتظار بالعمالات والجماعات والمراكز الثقافية يترقبون دخول الوزراء والولاة والعمال ورجال السلطة ورؤساء الجماعات والمنتخبين الذين يقتعدون الصفوف الأولى، هكذا يقتضي البروتوكول الرسمي، فهم آخر من يدخل القاعة للإستماع لخطاب الملك وأول من يغادرها.

لن تحتاج إلى كثير من الدقة لتلاحظ ان بعضهم ضاق عليه الزي الرسمي وأصبح بمقدورك ان تحصي قسمات وتضاريس كرشه وحواشيه المنسدلة على جانبيه، فبقدر ما يطول بك المقام بأرض فإن خيراتها تبدو عليك، وأول ما يفضحك هي ملابسك.

لا يمكن التنبؤ حقيقة أين كان المغرب إبان الزلزال الذي باغت البلد،لقد اكتشفنا اننا كنا في البلد..جميعنا كان في البلد..

كان في البلد مغاربة ماتوا عسى الله يتقبلهم مع الشهداء والصديقين.. وبعضهم نجا من تحت الانقاض.

الجميع شعر بالهزة الأرضية..

لأننا جميعا كنا هنا..

البلد كان هنا.

لكن المغرب لم يكن كله هنا..

ونتيجة لهذا الوضع شعرنا ليلة الزلزال وطيلة اليومين الذين أعقبانه أننا في قاعة الإنتظار.

ضرب الزلزال منطقة الحوز عند منتصف الليل.

فشعرنا بالحزن من هول الصدمة. وشعرنا بالخوف لأننا شعرنا أننا وحدنا هنا.

كنا جميعا ها هنا وكان بعضنا هناك.

كمغاربة كنا هنا ولم يكن المغرب معنا..

خرج البلد بأجمعه من هول الصدمة إلى الشوارع والازقة في انتظار تفسير لما يقع..

مباشرة بعد ان رجت الأرض رجا بحثنا عن المغرب أو بعضه، نتَلَمّسُ فيه بعض الضوء وبعض الحقيقة فلم نجده، لم نجد بعضنا،لم نجد المغرب.

فقد كان كان هناك.

بعيدا عنا بعيدا من هنا.

كنا كمن هو في قاعة الإنتظار

كان كلنا ينتظر بعضنا

ليشرحوا لنا ماذا هناك.. ماذا جرى.. ما الذي حرَّك البلد

وما أفزع البنت والولد

ومن اخاف الوالدة والجَد

ورروّع القلوب ورجّ الحيطان واقتلع الوتد

مرة أخرى بقينا ننتظر حتى يفرغ بعضنا لنا

فبعضنا كان لا يزال يسمح بخساسة بإذاعة السخافة في سهرة رشيد شو بالقناة الثانية.

فكان علينا ان ننتظر وضاقت بنا قاعة الانتظار.

انتظرنا مدة ساعتين حتى 2h00 صباحا لتشرح لنا وكالة المغرب العربي la Map ان وقع … هو الزلزال.

نعم إنه الزلزال.. لاماب أخبرتنا إنه الزلزال.. رغم ان النبأ كان قد اديع عبر بعض الاذاعات الصغيرة العاقة التي لم تنتظر إذن السيدة الوالدة لاماب.

في الحقيقة لا أحد اهتم لخبر لاماب ولا أحد سيصدقها..لان المغاربة لم يكونوا بصدد البحث عن الزلزال الذي اصاب البلد.

وإنما كانوا يفتشون عن المغاربة تحت الركام وعن المغرب بعد الزلزال.

لن نجادل في مشيئة الله وقضائه وقدره فنحن شعب مسلم مسالم راض .. لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.. ولن نفاوض في دخل الطبيعة وتغيرات الأرض وحركات المجرات والكواكب.

ولكن من حقنا ان نسأل بعد كل ما وقع أيْنَنَا نحن في هذا المغرب.

كنا نرى ونقرأ ونسمع نداءات الضحايا الأبرياء تشتكي العزلة وقلة الحيلة وارتفاع عدد القتلى نتيجة التأخر في وصول المساعدات والمعدات اللوجيستية لانقاد ما يمكن إنقاده.

لقد دخلت غالبية الدواوير وبلدات المغرب غير النافع من اقليم الحوز قاعة الإنتظار، في انتظار الذي يأتي او لا يأتي ولن يأتي من المغرب النافع.

وللأسف مرة أخرى تَغيَّبَ المغرب عن الموعد،ولم يستطع بعض الضحايا في جوف الأرض رؤية شمسه وشم أرِيجِه من جديد، فقد كان نصف النهائي بمونديال قطر آخر مرة يرفعون فيه راية الوطن..قبل أن ترتفع أرواحهم إلى السماء بعد زلزال الحوز وبعد ان تخلف المغرب الرسمي عن الوصول إليهم قبل صافرة النهاية.

وككل مرة كان الإنسان المغربي الشهم في الموعد فالمغرب قائم بأبنائه وليس بحكوماته التي تختفي عند كل وباء او مصيبة او كارثة.

يقال ان ان تأخر رئيس الحكومة في الخروج بتصريح حول الكارثة وبقاؤه في قاعة الإنتظار مرده الى غياب الملك حينها بفرنسا قبل ان يقطع مقامه ويعود مسرعا إلى المغرب..

عاد الملك وعقد في مساء نفس اليوم اجتماع الطوارئ.. ولم يخرج أخنوش من قاعة الإنتظار، وطيلة يومين بعد الكارثة ظل الوزراء مختفين والولاة والعمال غائبين.

وكانت الجزيرة من عين المكان تنقل الأحداث المؤلمات، واحيانا أخرى تنقل عن وزير الاتصال تصريحات عن رصد جميع الإمكانيات، والبحث في صيغ توزيع المساعدات.

وكان البلد كله ينتظر ويلتقط أخبار البلد من الهواتف وصفحات الفايسبوك عن جثث سوف تَتَفتت تحت التربة وأزكمت رائحتها الأنوف وعن دواوير لم تصلها أغطية ولا لقمة تسد رمق جوع من بقي منهم أحياء، قبل ان ينتفض الشعب ويخرج من قاعة الإنتظار التي ادخلهم إياها مسؤولون لم يفهموا بعد ما معنى الجدية في خطاب الملك.

مسؤولون يخالون ان مهمتهم هي التوقيع على الديروكاسيون وعقد اللقاءات وإدارة الموائد والدورات.

هؤلاء القياد الذين رفضوا التصريح بالدفن في إنتظار موافقة العامل.

والعامل رفض توزيع المساعدات الغذائية من طرف حامليها قبل أن يؤذن له بتمريرها عبر جهة خاصة او مؤسسة ما.

رأيناهم جميعهم ينتظرون مثلنا في قاعة الإنتظار.

البعض ينتظر لقمة عيش لم تصله بعد يومين والبعض ينتظر غطاء يحميه قر الجبال وبرد الليل والبعض عينه إلى السماء يرقب صوت مروحية فطالما سمِع عن شراء هيلوكوبتيرات ودرونات، وظَنَّ أنَّ اليوم يومُها ولا خير في غد يأتي دونها.

انهالت الأخبار تلو الأخرى..اخيرا بدأ المغرب ينصت لهمس الشعب ويُكَوِن فكرة عما يقع في البلد.

ورويدا رويدا بدأ المغرب يخرج من قاعة الإنتظار.. الملك قطع رحلته الى فرنسا وقَفَل عائدا لارض الوطن..رجوعٌ سيتيح لوزير الاتصال ان يخرج من قاعة الانتظار ويصرح امام الإعلام بربطة عنق أنيقة ان المغرب تعرض لهزة أرضية، وما فتئ كل مرة يخرج فيها ليُذكرنا ان المغرب لايزال يحصي موتاه ولايزال يجمع إمكانياته لمواجهة هذه الكارثة البيئية.

احتلت اخبار الهزة الأرضية مواقع التواصل الاجتماعي، وكان من المؤسف جدا ألا تحضُر الهيلوكوبتر وتبقى جميع المروحيات في الانتظار، ولم تحلق في سمائنا الدرونات التي يقتنيها المغرب من تركيا وإسرائيل.. لقد اخبرونا انها تتوفر على أحدث التقنيات وتستطيع ان تستخبر غيب الصحارى فلماذا تظل اليوم، رغم الحاجة إليها، في قاعة الإنتظار.

وككل مرة كان وزير الاتصال لايزال في التلفاز، يذكرنا بأن المغرب يحصي عدد موتاه ويعكف على تجميع إمكانياته.

وسط هذا الكم الهائل من الأخبار والتصاريح سقط على البلد خبر صادم ومُدوي، خبر فاقت صدمته قياس سلم ريشتر حين صرح احد مغاربة من بلدة نائية على أطراف المغرب غير النافع.. عتقونا بغينا غير الخبز.. الخبز

ياااه كم كنا أغبياء حين رفعنا أعيننا الى السماء نترقب ان تمتلئ بأسراب المروحيات والطائرات، لقد ادخلنا أنفسنا قاعة الإنتظار عن طواعية منا طيلة المدة التي اعقبت الزلزال، لقد كنا أغبياء حين حلمنا بالأحياء الموتى من مغربنا الرسمي تطير لانقاد موتانا الأحياء تحت التراب.

صدمة كانت بمثابة زلزال ثاني استفاق عليه البلد بعد ان طال المقام بالمغرب الرسمي في قاعة الإنتظار.

صرخة زلزلت المغرب..صعقت المغاربة..صرخة سوف تؤرخ لمغرب جديد..مغرب قائم بشعبه لا بحكومته..

هنا فقط خرج المغرب الحقيقي مغرب التضامن والتكافل واستعاد المغرب معناه، واسترد البصر رؤياه،
المغرب ليس هو اخنوش ولا وهبي ولا بايتاس ولا انت ولا هو.. المغرب هو أنا.. الأنا الذي ينتصر على التضاريس وعلى جميع الظروف.

لا قيود ولا انكسار

لا هوادة في سبيل الإنتصار احصوا انتم عدد الموتى واستمروا في تجميع الإمكانيات وأشهروا رقم حسابكم لمن أراد التطوع والمساهمة.. هذا دوركم.

اسمحوا او لا تسمحوا للقوافل ان تمر،فالامن الغذائي هو اختصاصكم.

امنحوا التراخيص لدفن الموتى او لا تمنحوها، تحت أي ذريعة شئتم، لن نعارضكم..

فالمغرب خرج اليوم من قاعة الانتظار بعد ان اكتشف ان الإنتظار مفسدة للوقت..وبعد ان اكتشف ان النداء الخالد ( بغينا غير الخبز) يستحق فعلا التتويج بجائزة الذكاء الطبيعي، في زمن التفاهة المصنعة والغباء الفطري لممتهنيها.

لا مجال اليوم لمزيد من الإنتظار، بعد أن فتشنا فلم نجد شيئا.

لم نجد المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في الحوز المنكوب والوطن المتقوب.

لم نجد برامج التنمية رغم انه كان هناك ولاة وعمال وعمدة ومنتخبون.

وكان التلفاز دائما ينقل لنا مراسيم التشييد ويتحدث عن مشاريع وبرامج ستغير وجه البلد.

لم نلفي شيئا يشرح معنى الجهوية ويحيل على الوطنية.

ولا اعتقد ان الملك محمد السادس نصره اليوم سوف ينتظر كثيرا ليفهم ان كثيرا من السياسيين والمنتخبين والوزراء وكثيرا من الولاة والعمال ورجال السلطة كانوا السبب كي يظل المغرب في مكانه ويلزم اليوم أكثر من أي وقت مضى القطع مع هذه الشرائح الفاسدة والمتقاعسة عن أداء دورها وازاحتها ليحل محلها جيل جديد بفضله يمكن للمغرب ان يغادر قاعة الإنتظار.

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى