في الواجهةكتاب السفير

التسامح كمفهوم في الفكر الإسلامي وكممارسة في التاريخ الإسلامي

le patrice

د. يسين العمري

تكملة لمقالي السابق بعنوان دور المثقف في تأصيل مفهوم وقيمة التسامح، يأتي هذا المقال ليتطرّق لمساهمة الفكر الإسلامي في بلوة التسامح كنظرية وكممارسة، إذ نجد أنّ أغلب الدراسات التي تتناول الجذور الفلسفية للتسامح تعود مباشرة إلى كتابات جون لوك وفولتير وسبينوزا وروسو، ربّما دون أن تكلّف نفسها عناء البحث في الخطّ التراكمي لظهور هذا المفهوم، وما يهمنا في هذه المقالة تحديداً الجذور الإسلامية الفكرية للتسامح، حيث نجد في نصوص فلاسفة الإسلام وعلى رأسهم أبو يعقوب الكِندي وأبو نصر الفارابي وإخوان الصفا وأبو الحسن العامري وابن رشد.

في هذا الصّدد نجد موقفين: الأوّل يمثّله محمد أركون الذي يؤكّد في كتابه “التسامح واللا تسامح في التراث الإسلامي” على أنّ التسامح كمفهوم لم يعرفه السياق الإسلامي تاريخياً، وبالتالي يندرج التسامح ضمن باب اللّام فكّر فيه في الفكر الإسلامي، ويُرجع ذلك إلى عائق إبستيمولوجي يسمّيه بالسّياج الدوغمائي ومصادرات العقل، وهذا أمر لا أتّفق فيه مع أركون، وأرجعه إلى عدم اطّلاعه على فلسفة الكِندي وابن رشد مثلاً لا حصراً وفلسفتهما في التسامح، وكذلك عدم الرجوع إلى نصوص قرآنية ومواقف من سيرة النبي محمد عليه الصلاة والسلام وصحابته عليهم رضوان الله كما سنوضّح لاحقاً، وهذا في نظري فيه نوع من التجنّي والتّحامل، بل والتعامل التحكّمي الإقصائي مع المفهوم من طرف أركون، وهذا أمر مستغرب من مفكّر بقيمته، وهذا ما أعيبه عموماً على المفكرين العلمانيين أو اللادينيين العرب الذين يتعاملون بنوع من الدونية مع التراث الإسلامي، مقابل تفخيم وتضخيم كلّ ما يأتي من الغرب، وهذا إشكال في الهوية وجلد للذات واحتقار لها بشكل بشع.

وكمثال على عدم التسامح كممارسة في تاريخ الغرب أذكر فقط محاكم التفتيش بالأندلس، ومثال راهن نراه في فرنسا اليوم، حيث يتمّ التضييق الفظيع والشنيع على مسلمي فرنسا، وهي كما يسمّيها البعض “بلد الحريات”، وفرنسا هذه هي بلد فلسفة الأنوار، وفولتير وما أدراك مؤلّف رسالة في التسامح هو فرنسي، بل إنّ شعار الجمهورية هناك “إخاء مساواة حرية”، لكن ما يقع اليوم من تضييق على الحريات يضرب في الصميم هذه المقولات، ويجعلها أقرب إلى الخرافات والخزعبلات.

أمّا الموقف الثاني فيمثّله محمد عابد الجابري الذي أكّد على ضرورة تأصيل مفهوم التسامح في الحضارة العربية الإسلامية، انطلاقاً من تعريف التسامح باعتباره يقوم على ضرورة فهم الآخر، وإعطائه الأسبقية وهذا جوهر التسامح، وهذا أمر نجده في صلب فلسفة الكِندي مثلاً في كتابه “رسائل الكِندي الفلسفية”، حيث يستعرض مرحلة الفرق الكلامية وخاصّة المُرجِئة والقدرية الذين كانت أفكارهم تدور حول محورين رئيسيين: التسامح من جهة والتأكيد على حرية الإنسان من جهة أخرى.

ونشير هنا إلى أن العديد من النصوص الدينية الإسلامية تتحدث عن التسامح والحثّ عليه وتعظيم تأثيره الديني والدنيوي. ومن الأمثلة التي نسوقها في هذا المقام قوله تعالى الآية 159 من سورة آل عمران: “ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك”، أو الآية 125 من سورة النحل: ” ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”، وكذلك الآية 34 من سورة فصلت: ” ولا تستوي الحسنة و لا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم”، هكذا أمر الله تعالى نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام بنهج مقاربة التسامح وقبول الآخر، تأكيدا للأثر المتميز الذي يتركه التسامح بين الناس، إذ يُشيع الألفة في تجميع القلوب، لأنه طريق الإقناع بالحسنى من خلال استخدام العقل الإنساني الحر، وبالإطّلاع على وثيقة “دستور المدينة”، يتّضح حجم التسامح والتواصل والتفهّم الذي جاء به الإسلام للآخر غير المسلم (اليهود خصوصاً ثمّ مشركو المدينة ومنافقوها)، قبل أن يغدروا وينقضوا العهد فتمّت معاقبة بالجلاء تارة وبالقتال تارة أخرى، وفي هذا تأكيد على أنّ التسامح ليس شيكاً على بياض، بل له حدود متعلّقة بالنّظام العام، متى تمّ خرقها لا يصبح للتسامح معنى ولا مستقرّ، ومن باب المقارنة ففولتير صاحب رسالة في التسامح، لم يُبْدِ أيّ تسامح مع الملحدين ومنكري وجود الله حيث دعا لقطع رؤوسهم في المقصلة.

وقد تكرّس مفهوم التسامح بصيغته الإسلامية في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحروب إذ قال: «لا تقطعوا شجرة ولا تقتلوا امرأة ولا صبيا ولا وليدا ولا شيخا كبيرا ولا مريضا، لا تمثلوا بالجثث ولا تسرفوا في القتل، ولا تهدموا معبدا ولا تخربوا بناء عامرا، حتى البعير والبقر لا تذبح إلا للأكل»، كما أوصانا أيضا صلى الله عليه وسلّم بالإحسان إلى الأسير وإكرامه وإطعامه، والوفاء بالعهد، وأخيرا عدم إجبار أحد على الإسلام. 

وجاء كذلك في وصية الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لجيوش المسلمين التي بعثها للشام لقتال الروم ما يلي: “يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمُؤاكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإن أكلتم منها شيئاً بعد شئ فاذكروا اسم الله عليها… الخ”. وهذه الوثيقة إحدى الوثائق التي نشرت بتصريح من المعهد الدولي لحقوق الإنسان بجامعة دي بول بشيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية.

ثمّ من بعد أبي بكر، جاء عهد الفاروق عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله عنه الذى فرق بين الحق والباطل، وقد أمر أن يكتب في عهد إيلياء لأهل القدس من النصارى: “لا تُسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينقص منها ولا من خيرها ولا من صليبهم ولا من شىء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم”، وقد أعطى الأمان لأهل القدس ومنح لهم حريتهم الدينية والسلامة لكنائسهم.
وفي العصر المعاصر يمكن أن نضرب المثل بما حدث في فترة الحماية الفرنسية على المغرب، وتدخّل السلطان محمد الخامس رحمه الله باعتباره أمير المؤمنين، حيث قام بحماية اليهود المغاربة باعتبارهم رعاياه من بطش حكومة فيشي الموالية لهتلر الذي كان يعادي اليهود، وهو موقف ما يزال يهود المغرب يسجّلونه بمداد الفخر.

وممّا لا شكّ فيه هو أنّ المفكرين المسلمين كانت لهم محاولات –البعض ينفيها كمحمد أركون والبعض يراها مبسطة- في مفهوم التسامح بمختلف أنواعه (العلمي والديني وغيرهما)، أو على الأقلّ محاولات في بعض المبادئ التي يجب أن ينبني عليها التسامح أو يُؤسِّس لها، سواء من المفكرين القدماء كالجويني وابن الهيثم وجابر بن حيان والجاحظ والرازي والطغرائي ومسكويه والماوردي وأبو الحسن العامري والكِندي وابن رشد وغيرهم، أو كذلك من رواد مفكري النهضة العربية كمحمد عبده، وأخيراً المفكرين المعاصرين كالشيخ محمد الغزالي من خلال كتابه “التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام”، ومحمد الطاهر بن عاشور، ومحمد عابد الجابري على سبيل المثال لا الحصر.

باحث في دراسات الدين والسياسة*

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى