إلغاء بحوث الإجازة والماستر.. جدل بين البحث الأكاديمي ومتطلبات سوق الشغل
إلغاء بحوث الإجازة والماستر.. جدل بين البحث الأكاديمي ومتطلبات سوق الشغل

السفير 24
أثارت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار نقاشاً واسعاً بعد إعلانها قرار إلغاء بحوث الإجازة والماستر واستبدالها بتداريب ميدانية داخل مؤسسات عمومية وخاصة، في خطوة اعتُبرت من طرف الوزارة محاولة لتقريب التكوين الجامعي من متطلبات سوق الشغل.
غير أن هذا القرار سرعان ما فتح الباب أمام جدل عميق حول مدى وجاهته وملاءمته لمختلف التخصصات، خصوصاً في ظل طبيعة الجامعة المغربية كفضاء لإنتاج المعرفة وترسيخ قيم التفكير النقدي.
ففي التخصصات العلمية التطبيقية مثل الطب والهندسة وعلوم التكنولوجيا، لا يختلف المراقبون حول الأهمية البالغة للتجربة العملية، إذ يشكل الجانب التطبيقي ركيزة أساسية في صقل مهارات الطالب وتجهيزه للاندماج المهني. ومع ذلك، فإن اعتماد التداريب لا يمكن أن يكون بديلاً عن البحث العلمي بقدر ما هو مكمّل له، لأن التكامل بين التكوين النظري والعملي هو ما يضمن تكويناً جامعياً متوازناً وذا قيمة.
لكن الإشكال يتفاقم حين يتعلق الأمر بالتخصصات القانونية والاجتماعية والإنسانية، حيث يُطرح التساؤل حول جدوى إلغاء البحوث الأكاديمية، في حين أنها تشكل أداة مركزية لصناعة المعرفة وإنتاج الأفكار وتطوير ملكات التحليل والنقد.
ويخشى أساتذة وباحثون أن يؤدي تعميم هذا القرار إلى تكوين أجيال تكتفي بإتقان بعض المهارات التقنية دون امتلاك القدرة على تحليل الظواهر المعقدة أو الإسهام في النقاش الفكري والعلمي، مما يفرغ الجامعة من بعدها المعرفي والتأملي.
وحتى من الناحية العملية، تبدو عملية تعويض البحوث بتداريب ميدانية محفوفة بالتحديات، إذ تواجه الإدارة العمومية المغربية صعوبات مرتبطة بذهنية محافظة تميل إلى كتمان المعلومة وتتحفظ في التعاون مع الطلبة، مما قد يحد من القيمة التكوينية لهذه التجربة. كما أن مسألة التأطير تشكل معضلة أساسية، في ظل محدودية الموارد البشرية وعدم وضوح آليات التوجيه والمواكبة.
ويرى أساتذة جامعيون أن المشكل الحقيقي لا يكمن في البحوث الجامعية في حد ذاتها، بل في البيئة التي تحتضنها. فالضعف المسجل في مردودية البحث العلمي يعود بالأساس إلى نقص التأطير، غياب التحفيزات المادية والمعنوية، وضعف ارتباط الجامعة بمحيطها السوسيو-اقتصادي. كما أن غياب رؤية استراتيجية شاملة تجعل البحث العلمي أولوية وطنية يساهم في تكريس وضع هش ينعكس على جودة المخرجات.
وبناء على ذلك، فإن أي إصلاح يستهدف الجامعة المغربية لا ينبغي أن يقوم على إلغاء جوهرها البحثي، بل على توفير شروط موضوعية للرفع من جودة البحث العلمي وربطه بحاجيات المجتمع والاقتصاد. فالتحدي ليس في إلغاء بحوث الإجازة والماستر، وإنما في إعادة الاعتبار للجامعة كحاضنة للعلم والمعرفة والإبداع، وضمان توازن حقيقي بين متطلبات السوق ووظيفة التفكير النقدي التي لا غنى عنها في بناء مجتمع حديث ومتماسك.
إن الرهان الحقيقي لا يكمن في المفاضلة بين البحث الأكاديمي والتدريب الميداني، بل في إيجاد صيغة تكاملية تضمن للطالب اكتساب مهارات التفكير النقدي والتحليل العميق من جهة، والقدرة على الاندماج في سوق العمل من جهة أخرى. فالتدريب الميداني يمكن أن يصبح امتدادًا عمليًا للبحث، كما أن البحث يظل أساسًا لتغذية روح الابتكار داخل التداريب. بهذا المنظور، يمكن للجامعة أن تحافظ على هويتها كمؤسسة لإنتاج المعرفة، وفي الآن ذاته تساهم في إعداد موارد بشرية قادرة على الاستجابة للتحديات التنموية.