آسفي.. بأي محرار أقيس نبض حبّك؟
* ذ.عبد الله النملي
الحب ليس محصورا دائما بين كائنين بيولوجيين، بل هناك أيضا حب للأمكنة والمدائن. فحب المدن إحساس لا يمكن تعليمه أو اكتسابه، فإما أن تملكه أو لا تملكه. وللمدن، روائح معينة، من الصعب التعرف عليها بزيارة خاطفة، بيد أن رائحة المدن الخاصة تفيض للشخص الذي يحبها ويألفها، ربما إلى حد العشق أحيانا. والكتابة عن المدن متعة آسرة، لا يعادلها إلا قصائد العشق أو أغاني الفرح. فالأمكنة تمارس سحرها على الإنسان وتجبره على التغزل بها أو رثائها، ولا شك أن حبنا لبعض الأماكن وارتباطنا بها وذكرياتنا التي نسجت نفسها فيها، هو ما يبعث في جماداتها نبض الحياة، فيجعلها حية فينا تعيد لنا كل ما مضى. ولأن الكتاب والمبدعين أكثر القادرين على إحياء مدنهم بالكتابة شعرا أو نثرا أو مقالة.فكاتب واحد يتمتع بموهبة استثنائية قد يرفع اسم بلاده أو مدينته إلى مشارف عالمية أكثر من أي مسؤول حكومي مهما علا شأنه. فهناك دولا ومجتمعات ومدنا محظوظة بكتاب كبار واستثنائيين أحيوا بلدانهم ومدنهم في الفضاء العالمي، وهناك دول ومجتمعات ومدنا حظها أقل إلى حين.
فالمدن كالبشر، يمكن أن تقع في هواها من أول لحظة، من أول نظرة، من أول نسمة. و أول مدينة تخطر ببالي عندما أسوق هذا الحديث، هي مدينتي آسفي، حاضرة المحيط الأطلسي التي أشعر بفخر كبير عندما أكتب عنها وأتباهى أن كانت تلك المدينة مسقط رأسي، تلك العروس البيضاء المستلقية على ضفاف المحيط الأطلسي، والتي ما زالت تستحم في هدوء تحت أشعة الشمس الذهبية. فليس هناك أجمل من الكتابة عن مدينتي وإن قست، لأن الكتابة تجعلها قريبة من الناس وإن لم يروها. آسفي هي مدينة تغريك بزيارة تالية، تشعر أنك ولدت فيها، وجرّبت في حواريها بداية عشق الأشياء، لن تجفو عليك مهما ابتعدت، وستظل موئلك الأخير عند كل خيبة، وفي ساعة تيهك تتوجه إليها دونما تردد، ليغشى الاطمئنان قلبك. آسفي هي المدينة التي مهما غادرتها لا تغادرك، وعندما تسافر بعيدا عنها، تفتش جيوبك وحقيبتك في محطات الرحيل كأنما عقلك يخبرك بأنك نسيت شيئاً ما، وعندما تجد أشيائك مكتملة، تفهم أن جزءا من الذاكرة قد استقر هنا بلا رجعة. فكل من يزور آسفي يَعز عليه فراقها، وكل من عرفها تعلق بها. ويظل المسفيوي مشدودا إلى مدينته، وقد يصعب عليه أحيانا مغادرتها، وإذا غادرها يحن إليها مرة أخرى، وإذا طال به الزمان ولم يعد إليها فإنه يستنشق عبقا يذكره بها، وكأنه رباط خفي يربطه بمدينته أينما حل وارتحل يفوق الوصف ويتجاوز المشاعر العادية.
وإذا كانت هناك مدنا لا تَستهوي زوارها ولا تُحرك لهم في النفس ساكنا، فإن مدنا أخرى تستحيل الحياة من دونها بلا معنى. فهناك مدن تحبها، وأخرى تنفر منها، وثالثة تلبسك بمجرد أن تطأها حتى تنقلب حياتك رأسا على عقب وكأنما خُلقت حينها. هذه المدن هي التي تستحق أن تتوقف عندها بالتفكير والحنين والعشق. آسفي واحدة من تلك المدن التي تسكن التاريخ البشري، هي حكاية أسطورية تتردد تفاصيلها الساحرة في زوايا الحضارة الإنسانية. آسفي، تاريخ عريق، وصفحة رائعة من الحضارات والشعوب والديانات التي تعاقبت على هذه الأرض التي تعشق التنوع وتحتضن التعدد. هي بلا شك، أيقونة التسامح وعنوان الانفتاح، بكل ما تحتويه من حضارة ضاربة في أعماق التاريخ البشري. آسفي ليست بقعة جغرافية محدودة بمحيط معين، بل هي التاريخ والحضارة والجمال، أقدم مدن المغرب المأهولة، تبارى في وصفها شعراء كثر لم يستطيعوا إخفاء عشقهم وولعهم بها.
وقد منح الله سبحانه وتعالى مدينة آسفي ميزات كثيرةً قلَّ أن تجد مثلها في مدن أخرى. آسفي مدينة لا يخضع لجمالها كل من رآها فقط، بل يُتَيّم بها حتى من سمع عنها ووصله صيت أخبارها. هي مدينة ضاربة في القدم، أنشئت على وادي الشعبة، منبع الطين والخزف الذي اشتهرت به المدينة. لا يعرف بالضبط العصر الذي تأسست فيه آسفي، فهي قديمة قدم التاريخ نفسه. ولعل التضارب التاريخي حول ظروف الاستيطان ومراحل تأسيس المدينة هو الغالب أيضا على أصل التسمية، نظرا لعدم وجود نصوص صريحة ترفع عنها كل الالتباسات والفرضيات التاريخية. وقد حيكت حول تأسيسها واشتقاق اسمها روايات متضاربة وقصص مختلفة. وكل من تناول تاريخ آسفي من المؤرخين والباحثين، يقر بأن جذور وجودها تضرب عميقا في مجاهل التاريخ. وقد تولد عن ذلك تضارب كبير في الرأي حول أمور تتصل بتأسيس هذه المدينة، ومدلول اسمها والأصل الذي اشتق منه. ومع كل هذا التضارب فقد حظيت آسفي بأهمية بالغة.
ولعل الأحفوريات التي اكتشفت بجبل ايغود شرق المدينة سنة 1962، والمتكونة من بقايا عظمية بشرية وحيوانية وأدوات مختلفة تفيد بأن الإنسان عمّر آسفي قبل خمسين ألف سنة. ولا غرو في ذلك، فالمدينة تضم مجموعة من المآثر التاريخية والأسوار والقلاع التي تشهد على تاريخها العريق، و ورد اسمها ضمن أمهات المعاجم، وذكرها ابن بطوطة في مذكراته الشهيرة التي ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة، تقف أسوارها شاهدة على ماض مجيد، حتى وصل ساحلها القائد العربي عقبة بن نافع، و ترك صاحبه شاكر لينشر الإسلام بالمنطقة، وتحول مقامه إلى رباط يعمره الصالحون، حتى قيل أنه أول وأقدم مسجد بالمغرب. وزارها وزير غرناطة لسان الدين بن الخطيب، وأعجب بها “الدون إمانويل” ملك البرتغال، فشيّد بها كاتدرائية بهندسة فريدة. وفي فترة الاستعمار الفرنسي كانت المدينة سباقة إلى إطلاق شرارة المقاومة، حيث تشكلت بها العديد من منظمات الكفاح المسلح، ولا غرابة في ذلك حيث أن ثلاثة من أبنائها من بين الموقعين على وثيقة الاستقلال.
وتعد مدينة آسفي وباديتها، من أقدس مناطق المغرب، وأكثرها ازدحاما بالصلحاء والأولياء. فهذا المؤرخ الإغريقي سيلاكس، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، يشدد بعد زيارته لمنطقة عبدة على وجود حياة دينية مكثفة بها، وعلى أنها أقدس مكان بمجموع إفريقيا. وذكر أنه وجد بها معبدا عظيما، مخصصا لبوصيدون إله البحر والأنهار والعواصف عند اليونان القدماء. وقد تحقق لأرمان أنطونة إحصاء صلحاء عبدة، فوصفها ببلد الألف سيد، تُنبت أرضها الصلحاء كما تُنبت العشب. وعبر العصور كانت المدينة مكانا مثاليا للخلوة والعبادة والانقطاع عن الناس، حتى أن “مارسي” يعتقد أن بعض خلوات و رباطات آسفي، كانت في الماضي البعيد أديرة للناسكين والرهبان. كما اعتبرت آسفي عبر تاريخها العريق عاصمة التصوف المغربي، إذ خرجت منها ثلاث طرق صوفية كبرى تكاد تكون عالمية. وإذا كانت بعض النواحي والمدن مشهورة بما يوجد فيها من كبار الصلحاء، فلا تذكر إلا مقرونة بذكرهم، فإن بآسفي الشيخ أبي محمد صالح الذي أنشأ بها مؤسسة الركب الحجازي، حتى باتت مركز إشعاع علمي. ومنها أطلق سيدي محمد بن سليمان الجزولي الإشعاع لطريقته الصوفية من خلوته التي ما تزال آثارها قائمة إلى اليوم. كما احتضنت آسفي على الدوام ساكنة يهودية كبيرة لم تشهد كبعض المدن المغربية تأسيس ملاح يأويها ويعزلها وراء أسوار منيعة، بل عاش اليهود بين المسلمين دون ملاح يحط من شأنهم.
ولمدينة آسفي، وَلع لا يُضاهى بالشأن البحري قديمه وحديثه، خَبَرت آسفي البحر وأهواله، وفنونه وعلومه، كما كان السفر عبر البحر منذ القديم، مهنة للعديد من أبناء آسفي الذين تعلموا أصوله، و ورثوها لأبنائهم، كما أفلحت المدينة في تحدي أمواج البحار، لتتحول بذلك إلى أول ميناء للصيد البحري بالمغرب، حيث اشتهر بها الربابنة والرياس الكبار، حتى أضحت عاصمة العالم في صيد السردين، مما جعلها تُغْري بلذائذ أسماكها جيراننا فجاؤوها محتلين. وقد لعب ميناء آسفي دورا كبيرا في تاريخ المغرب، على اعتبار أنه كان نقطة عبور أساسية للعديد من الشعوب الباحثة عن موطئ قدم بالقارة الإفريقية، كما كانت آسفي مَعْبَرا أساسيا للمغامرين والباحثين عن المواد الأولية والأسواق التجارية، مما جعل سلاطين المغرب يهتمون بها، حتى أصبحت مرسى الإمبراطورية المرابطية الرئيسي، و ميناء دبلوماسيا للدولة السعدية، وجعلها البرتغاليون ميناء هاما لتصدير الحبوب والسكر والصوف، منها يتم الاتصال بالعالم الخارجي لتبادل السلع والمنتجات الفلاحية وجلب بضائع الأندلس، كما كانت مركزا لتجميع قوافل الذهب الإفريقي الذي ينقل عبر السفن إلى الأندلس لسك النقود. وقبل التوجه إلى العاصمة السياسية مراكش، كان المبعوثون و السفراء الأجانب ينزلون بآسفي، ناهيك عن أنها شكلت وجهة مفضلة للعديد من الأسر الأندلسية والعربية حتى وصفت بأنها مدينة دبلوماسية يقطنها السفراء والقناصل، وترسو بها السفن الأوربية التي ترغب في إبرام الاتفاقيات الدولية بالعاصمة مراكش. وازداد اهتمام السلاطين بآسفي فأقاموا بها دارا لضرب السكة ما بين 1716 و 1830م.
ولمرسى آسفي أدوار في الملاحة البحرية القديمة، حيث تُعتبر من أقدم موانئ المغرب، و من بين ثمانية موانئ فقط فُتحت للتعامل التجاري مع الخارج، حيث تزعمت حركة الاتصال بالعالم الخارجي منذ القديم. وهنا لابد من الإشارة إلى المحطة البارزة التي ظهرت فيها دبلوماسية السكر على حد تعبير المؤرخين الأوربيين، حيث كان السكر القادم من شيشاوة في مقدمة المواد التي تُسوقها المدينة لإنجلترا، لأن المملكة لم تكن تقبل في مطبخها، حسب ما ذكره “هنري روبيرتس”، إلا السكر المغربي، علاوة عن أن آسفي كانت مُنطلقا لملح البارود المغربي، الذي لم يكن يوازيه أي ملح في العالم، والذي كان الدفاع الحربي الإنجليزي يعتمده، إضافة إلى كون المدينة كانت تزود أوربا بأجود الصقور المغربية، التي ساهمت في تطوير هواية القنص بالصقر، دون أن ننسى تصدير الشمع، حيث كان المستهلكون يُقْبلون عليه لقوة نوره وصفائه، وللرائحة التي يستنشقونها عند احتراقه، وكأنه مُزج بمادة العطر.
وملح الختام، آسفي مدينة أنصفها التاريخ وأهملها الحاضر..