في الواجهةكتاب السفير
لقاء الإليزيه الأخير: ماكرون “يحتضن” خصمه ساركوزي قبل السجن… وداع سياسي أم ترتيب للمستقبل؟
لقاء الإليزيه الأخير: ماكرون "يحتضن" خصمه ساركوزي قبل السجن… وداع سياسي أم ترتيب للمستقبل؟

السفير 24 – جمال اشبابي – باريس
في الوقت الذي اكتفى فيه الإعلام الفرنسي بتغطية لقطات البروتوكول — سيارات سوداء، ابتسامات عابرة، وصور من قصر الإليزيه — هناك ما هو أعمق من المشهد الظاهر. دخول نيكولا ساركوزي السجن غدا ليس فقط تطبيقا لحكم قضائي، بل لحظة فلسفية في مسار الجمهورية الخامسة: أول مرة يجد فيها أحد أعمدتها نفسه خلف القضبان باسم العدالة التي ساهم هو في صياغة قوانينها.
هل الدولة قادرة على محاسبة نفسها؟
قلة من الصحف تجرأت على تناول البعد الرمزي لهذه اللحظة. فالإعلام الفرنسي انشغل بالتفاصيل الإجرائية للحكم، لكنه “نسي” أن في المسألة تحولا في مفهوم السلطة نفسها. أن يساق رئيس سابق إلى السجن، بعد أن كان ذات يوم رمزا للقوة والهيمنة، هو مشهد يحمل بعدا تطهيريا للمؤسسة السياسية، ورسالة مفادها أن الدولة قادرة على محاسبة نفسها.
ثم هناك الجانب المسكوت عنه: إعادة رسم الخريطة داخل اليمين الفرنسي. فساركوزي لم يكن مجرد رئيس سابق؛ بل هو التيار، والذاكرة، و”القبضة الحديدية” التي ظلت تؤطر اليمين لعقدين. غيابه الإجباري يفتح الباب أمام إعادة توزيع الولاءات داخل المعسكر المحافظ، وربما يتيح لماكرون أن يعيد صياغة التوازن السياسي لصالح الوسط.
بينما اللقاء بينه وبين ماكرون، الذي جرى في هدوء داخل الإليزيه، يعتبر أكثر من لقاء مجاملة شخصية. هو حوار رمزي بين جيلين من السلطة: جيل بنى الجمهورية الحديثة على صلابة الرئاسة، وجيل يحاول تفكيكها من الداخل باسم التحديث والديمقراطية. ماكرون لم يرد أن يغلق الباب في وجه رجل يمثل نصف اليمين الفرنسي، بل أراد أن يظهر أنه يدير العدالة لا يتدخل فيها، وأن الدولة قادرة على معانقة خصومها دون أن تفرط في مبدأها.
السيناريوهات المفتوحة
في عالم السياسة تتغير الأشياء بسرعة، فمن يدخل السجن يمكنه أن يخرج منه أكثر قوة — والتاريخ الفرنسي يعرف ذلك جيدا. ساركوزي ليس نكرة في السياسة، ويمتلك شبكة نفوذ تمتد من المؤسسات المالية إلى الدوائر الإعلامية. السجن، في حالته، قد لا يكون نهاية بل تحولا إلى رمزية جديدة، حيث يطل من وراء الجدران بصفته “الضحية السياسية” أو “الشاهد على فساد المنظومة”.
لكن الخطر يكمن في مكان آخر: إذا تحول هذا الحكم إلى مجرد عقوبة رمزية للنخب، دون أن يلمس المواطن العادي أثر العدالة المتساوية، فإن الضرر سيكون عكسيا. فبدل أن يعزز الثقة في القضاء، قد يرسخ الانطباع بأن القانون صار مسرحا لتصفية الحسابات بين الكبار.
في المقابل، لا يمكن تجاهل المكاسب المعنوية للدولة الفرنسية التي تظهر للمجتمع والعالم كدولة قانون حقيقي. من الناحية الدولية، ينظر إلى هذا المشهد كدليل على أن فرنسا تملك من القوة المؤسسية ما يجعلها تحاكم حتى رؤسائها السابقين. لكن في الداخل، يبقى السؤال: هل العدالة هنا أداة أخلاقية، أم آلية لإعادة ترتيب المشهد السياسي؟
وفي هذه اللحظة الرمادية، يبرز ماكرون مجددا لاعبا صامتا على رقعة الشطرنج السياسية: يستقبل ساركوزي قبل السجن، لكنه يترك القضاء يأخذ مجراه. خطوة محسوبة بدقة، لا تخلو من براغماتية، وربما تحمل نوايا مستقبلية تتعلق بإعادة هندسة العلاقة بين الوسط واليمين قبل الانتخابات المقبلة.
من رئيس دولة إلى السجين: سقوط أم استمرارية؟
ساركوزي يدخل سجن La Santé ليس كأي سجين آخر، بل كمثال حي على تعقيدات السلطة الفرنسية: الرجل الذي بنى صورته على الحزم ومكافحة الجريمة، يجد نفسه اليوم في الزنزانة باسم نفس القوانين التي ساهم في تشديدها.
هناك من يرى في ذلك عدالة شعرية، وهناك من يراه ظلما سياسيا. لكنه في الحالتين نهاية جيل من الرؤساء الذين اعتقدوا أن الكاريزما تغفر الأخطاء، وأن التاريخ لا يفتح دفاتره إلا في المناسبات.
سيمضي ساركوزي أيامه الأولى في السجن تحت حراسة خاصة، ربما في عزلة، وقد يشرع في كتابة كتابه الجديد، كما ذكرت مصادر مقربة منه. لكن أكثر ما سيواجهه ليس جدران السجن، بل المرآة التي تذكره بأنه تحول من رمز للسلطة إلى موضوع لها.
لقاء ساركوزي وماكرون، إذن، ليس مجرد وداع بين رئيسين، بل طقس انتقال رمزي بين مرحلتين في تاريخ فرنسا: من الجمهورية التي كانت تحمي رموزها إلى الجمهورية التي تجرؤ على محاكمتهم.
وقد يكون ذلك على النقيض، دليلا على أن الديمقراطية الفرنسية لا تزال قادرة على تصحيح نفسها، ولو ببطء.



