
السفير 24 – محمد كرم
قال مفكر غربي معاصر لا تسعفني الذاكرة حاليا في استحضار إسمه : ” الحدود التي لا يخترقها الأشخاص و لا تعبرها السلع هي حدود سيداهمها العسكر حتما في يوم من الأيام.”
و منذ رصدي لهذا التصريح ـ الذي لا يحتمل أكثر من تأويل واحد و الذي يستحق أن يصنف ضمن الأقوال المأثورة ـ و يدي على قلبي توجسا مما يمكن أن تفضي إليه حالة الجمود الرهيبة التي تسم حدودنا البرية مع الجارة الشرقية.
لقد خلق الله الإنسان ليعيش و يتفاعل مع غيره ، و لنفس الغاية وجدت الشعوب و القبائل على اختلاف أصولها و خصائصها الإثنية و الجينية و اللغوية و الثقافية.
لهذا السبب فإنه من غير الطبيعي أن يعيش أي مجتمع بشري مهما ارتفعت درجة اكتفائه الذاتي على كل الأصعدة بمعزل عن المجتمعات الأخرى و خاصة تلك المحيطة به مباشرة. و لهذا السبب أيضا لا يمكن لبلد جار أن يظل مجرد إسم على خارطة في أذهان أهالي البلدان المجاورة له، بل لا بد من إقامة حد أدنى من التواصل الإنساني و التبادل التجاري معه حتى لا يتحول التجاهل المتبادل إلى لغم قابل للانفجار في أية لحظة و ربما لأتفه الأسباب. و حتى عندما اهتدى الإنسان إلى رسم الحدود الدولية و إقامة المعابر بمعناها الحديث لم يكن الهدف هو منع تنقل الأشخاص و تدفق السلع بل كان المقصود هو تقنين العبور بما يخدم مصالح البلدان المتجاورة في زمن تتطور فيه الأنشطة الاقتصادية و تتعقد فيه الإجراءات الجمركية و تزداد فيه الهواجس الأمنية يوما بعد يوم.
وعالمنا المعاصر مليء بالأمثلة المجسدة للمقاربة العقلانية لما يجب أن تكون عليه علاقات الجوار الدولية.
و هكذا، و على الرغم من اختلاف الرؤى بين الولايات المتحدة الأمريكية و كندا بشأن أكثر من موضوع، و على الرغم من تدهور العلاقات الرسمية بينهما من حين لآخر فإننا لم نسمع قط بإغلاق الحدود بين البلدين بل إن الكنديين بشكل خاص يعتبرون الجار الجنوبي امتدادا طبيعيا لبلدهم، و بين الوقت الذي شرعت فيه عزيزي القارئ في قراءة هذا المقال و الوقت الذي ستصل فيه إلى نقطة النهاية ستكون عشرات السيارات الخصوصية و عشرات الحافلات السياحية و عشرات الشاحنات التجارية العملاقة قد اجتازت هذه الحدود في الاتجاهين. و الملاحظة نفسها تسري على الحدود الأمريكية المكسيكية التي لم يطلها الإغلاق أبدا منذ تأسيس الدولتين بالرغم من أنها ما فتئت تشكل مصدر قلق و انزعاج لسلطات البلدين بحكم ما تعرفه من تدفق دائم للمهاجرين غير الشرعيين المصرين على الاستقرار ببلاد العم سام مهما كلفتهم مغامراتهم من ثمن.
و على الرغم من التوتر الدائم الذي يطبع العلاقات التركية اليونانية و الذي يجد تفسيره في تاريخ المنطقة و رواسب الماضي وخصوصيات الشعبين الشيء الذي كاد يزج بالبلدين في حرب جديدة في أكثر من مناسبة خلال تاريخ المنطقة الحديث فإن حدودهما البرية ظلت على الدوام نقطة للتلاقي و التواصل و التبادل. و حتى الحدود الفاصلة بين إسرائيل و الأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية و التي يلجأ الصهاينة إلى إغلاقها بين الفينة و الأخرى لأسباب معروفة فإنها تظل في أغلب الأحيان مفتوحة في وجه كل من يرغب في عبورها من الجانبين على الرغم من أن المنطقة تعرف حالة طوارئ دائمة و تعيش على إيقاع حرب متقطعة منذ عقود من الزمن و ذلك إيمانا من الفرقاء بأن إغلاق المعابر من شأنه تعطيل المصالح الثنائية المشتركة و إعداد الأوضاع لانفجار أكبر و مآسي إنسانية أفظع.
أما جدار برلين فعلى الرغم من صلابته و الإجراءات الأمنية الاستثنائية التي عرفها طوال مدة انتصابه فقد سقط في نهاية المطاف و بسقوطه استعادت ألمانيا وحدتها و دخل تاريخ العالم مرحلة جديدة. و هذا الانهيار لم يكن بفعل تحرك الجرافات الضخمة أو بفعل العمليات العسكرية المنظمة بقدر ما كان نتيجة حتمية لنفاذ صبر “الشعبين” المعنيين و رفضهما تطبيع حدود اصطناعية أججت الحرب الباردة و أنعشت الإنتاج الروائي التجسسي لا غير.
ما أحوجنا اليوم بمنطقتنا إلى التحلي بالحكمة و بعد النظر و تغليب منطق المصالح المشتركة التي من المفترض أن تكون هي الموجه الحقيقي للعلاقات بين الدول. ألم يقل أحدهم يوما ما : “ليس هناك صديق دائم، و ليس هناك عدو دائم، إنما هناك مصالح مشتركة دائمة” ؟ أما الانزواء و التقوقع فلن يجلبا سوى المزيد من التخلف الاقتصادي و الفقر الثقافي، و رفض فتح الحدود من جديد إنما يكرس حالة التوتر و الاحتقان القائمة و التي طالت أكثر من اللازم . الوقت لم يعد يسمح بالاستمرار في تحميل هذه الجهة أو تلك مسؤولية ما هو حاصل خاصة عندما نعلم بأن أجيال الاستقلال المتتالية لا يد لها و لا ذنب لها في هذه الأزمة المزمنة.
و طبعا التقارب بين القوتين الإقليميتين لن يتأتى بالاستمرار في إنتاج و ترويج الفيديوهات المسيئة لهذا الطرف أو ذاك و المستخفة بذكاء هذا الشعب أو ذاك أو في تناسل المقالات “الأكاديمية” الفاقدة في الغالب للمصداقية و الموضوعية (متى اتخذ التحليل الأكاديمي الرصين من الازدراء و الاحتقار منهجية ؟ و متى كان ما يشبه السب و الشتم مـــــن شيم الأكاديميين ؟). بعبارة أخرى، إذابة الجليد المتراكم لا تكون بالتصعيد.
و مهما كانت السلبيات التي ستفرزها حتما عمليات العبور اليومية بين بلدينا ستظل الإيجابيات حجة كافية لإبقاء الحدود مفتوحة على الدوام. فالمشاكل الطبيعية تبقى طبيعية و من المستبعد جدا أن تتحول إلى شيء آخر في حين تبقى المشاكل الخارجة عن المألوف قنبلة موقوتة و حتى إذا لم يكتب لها الانفجار فستظل على الأقل مصدر رعب دائم. و بغض النظر عن المنافع و المشاريع الإقليمية الكبرى التي من المحتمل أن يفرزها فتح الحدود على المدى المتوسط أو البعيد فإن الأهم يظل هو إحياء صلة الرحم بين الشعبين و فسح المجال من جديد لتلاقحهما بشريا و اجتماعيا و ثقافيا و نفخ حياة جديدة في المناطق الحدودية من خلال إنعاش اقتصادها. أما إذا ظلت الحدود غير قابلة للاختراق ففي ذلك خسارة من المؤسف تصورها و من السهل تحديد حجمها.
إن أجيالا بأكملها من أبناء البلدين أدت و مازالت تؤدي ضريبة هذا الوضع النشاز و النادر. فمعظم الجزائريين غير قادرين اليوم على ذكر إسم روائي مغربي واحد أو إسم مخرج سينمائي مغربي واحد أو إسم ممثل تلفزيوني مغربي واحد … و العكس صحيح أيضا. و هناك من المغاربة من يربط إسم الجزائر بالغاز و موسيقى الراي فقط و لا يعلم بأن إسم البلاد هو نفسه إسم العاصمة، و هناك من الجزائريين من يربط صورة المغرب بالسياحة و إنجازات فوزي لقجع فقط و لا يعلم بأن “كازا” هي الدارالبيضاء، و هذا بكل تأكيد وضع غريب سيزيد ـ إذا ما استمر ـ في تعميق الهوة بين الشعبين و حضارتيهما و لهجتيهما و مقاربتيهما للمشاكل الإقليمية. و لعل ما يدعو للاستغراب أكثر أن يضطر المواطن الوجدي الراغب في زيارة تلمسان المتواجدة على مرمى حجر من مقر سكناه إلى الانتقال إلى الدارالبيضاء أولا ثم السفر جوا في اتجاه تونس أو باريس ثم إلى وهران و منها إلى وجهته النهائية برا مع العلم بأننا لسنا هنا بصدد الحديث عن الحدود الفاصلة بين كوريا الشمالية و كوريا الجنوبية و الموسومة بتناقضات سياسية عميقة أو الحدود البحرية الفاصلة بين الولايات المتحدة الأمريكية و جزيرة كوبا و المطبوعة أمواجها بهيجان أيديولوجي مزمن بل الأمر يتعلق ببلدين خاضا حرب استقلالهما على أمل التضامن و التكامل ليجد كل واحد منهما نفسه بعد ذلك على طريق بلا رفيق مانحين بهذا السلوك الفرصة لأقوياء هذا العالم لاستصغارنا و احتقارنا.
و بعد كل ما سبق ذكره أظن بأنه من البديهي الإقرار بأن الحديث عن اتحاد المغرب الكبير في ظل الظروف الراهنة سيظل مجرد حبر على ورق و ستظل الاجتماعات التي تعقدها مؤسساته بين الفينة و الأخرى مجرد فرصة للسياحة و تزجية الوقت و تبادل مختلف أصناف المجاملات لأن واقع الحال يقول بأن قطار هذه المنظمة الإقليمية لم يغادر نقطة انطلاقه أبدا و لن يكون بوسعه التحرك و التقدم إلا بعد عودة الحياة إلى العلاقات المغربية الجزائرية اللهم إلا إذا كان لباقي أعضاء الاتحاد اقتناع بأن بناء الصرح المغاربي ممكن في غياب المغرب أو الجزائر أو هما معا.
الفاعلون الإيجابيون من ذوي النوايا الطيبة مدعوون اليوم، و أكثر من أي وقت مضى، إلى التحرك بإسم الجماهير بالبلدين على أمل أن تفلح الدبلوماسية الحزبية و البرلمانية و الرياضية و الفنية و الجامعية و الثقافية و السياحية في ما فشلت فيه الدبلوماسية التقليدية مع اقتناعي بأن حلحلة مشاكلنا ليست بيد منظمة الاتحاد الإفريقي أو هيئة الأمم المتحدة بقدر ما هي بيد الضمائر الحية بمنطقتنا. أتمنى ذلك من أعماق قلبي، كما أتمنى ألا تفتح الحدود لتغلق من جديد من هذا الجانب أو ذاك مهما كانت طبيعة الذريعة. إننا في حاجة إلى طريق مفتوحة توحي بالحياة و الأمل و ليس إلى قاعة انتظار تبعث أجواءها على السخط و الملل.