يوميات أستاذ من درجة ضابط “الغرفــة 10”

السفير 24 | بقلم : ذ. عزيز لعـويـســي
لتلج إليها، لابد وأن تقتحم بقدميك بابا حديديا (باب الداخلية) يعطي منذ اللحظة الأولى إنطباعا أنك أمام باب زنزانة أو معقل.. لكن الإنطباع يزول نسبيا بمجرد ما تلتقط عيناك الشاردة نافورة زرقاء بدون ماء رسم الإهمال واللامبالاة تجاعيد على وجهها الشاحب.. تبدو كعروس هجرها عريسها المتيم ليلة زفافهـــا بدون رجعة ..لكنها لا زالت مصرة على الحياة مهما دقت طبول الإهمال القاتل..مع ذلك فهي تبقى “أيقونة” المكان بإمتياز..أول ما يثير الإنتباه.. بنايات إسمنتية تبدو كالقلاع والرباطات اكتسحها اللون الأحمر من كل صوب وإتجاه كما تكتسح رياح الخريف أوراق الشجر…إلى درجة تحس فيها أنك بين أحضان حي من أحياء مدينة مراكش الحمراء… لكن المكان تغيب فيه بهجة جامع الفنا وصخب باب دكالة وعنفوان الكتبية وسحر المنارة وعنفوان قصر البديع..كل شئ هنا يوحي بالكآبة والرتابة القاتلة.. شجيرات نخل وزيتون وتوت لم تسلم بدورها من حمى الإهمال والنسيان.. وأعشاب وحشائش متناثــرة..كراسي إسمنتية متراصة على طول الممر… نخلة محطمة لم يتبق منها سوى جـدع صلب لم يتجرأ أحد على إزالته…قطط متسكعة صارت جزءا من المكان …
مشاهد الإهمال المتناثرة كحبات القمح في البيادر، أعادت منذ الوهلة الأولى الضابط “سليم” إلى ماضي السنوات العابرة، وتحديدا إلى مرحلة التدريب الأساسي بأكاديمية الشرطة، وفرضت عليه أن يتموقع بين مجالين متناقضين تماما: مجال الإهمال ومجال النظافة ..مجال الارتباك والعشوائية ومجال النظام.. مجال تضعف فيه مؤشرات الكرامة ومجال تتعايش فيه الكرامة جنبا إلى جنب مع تحمل المسؤولية وتقاسم الأعباء والالتزام بالضوابط.. مجال يبدو أقرب إلى الثانويات الإعدادية أو التأهيلية، ومجال وصل إلى مستوى عال من الجمالية والنظام ما يجعله يضاهي كبريات المؤسسات الجامعية والمدارس العليا… مجال أول يعكس درجة الإهمال التي تعيشها منظومة التربية والتكوين، ومجال ثان بمثابة مرآة عاكسة لكل تعابير الاهتمام والدعم المادي واللوجيستي على المستوى الرسمي…
وسط هذه الرتابة القاتلة التي أعادت “سليم” عنوة إلى واقع اللحظة بكل ما تحمله من مشاعر الذهول والحسرة … تترك الجناح المخصص للأستاذات من جهة الشمال.. وتقطع الممر المؤدي إلى جناح الأساتذة بخطوات متتثاقلة تحرسك الحشائش المتناثرة كحبات القمح في البيادر.. إلى أن تصل إلى مدخل الجناح.. يصادفك سرير مهمل متهالك منتصب كحارس عمارة.. يسارا يوجد ممر مؤدي إلى جناح أساتذة وبمحاذاته يوجد درج يفضي إلى الطابق العلوي حيث يقطن إبن الشاوية “سعدان ” ، يمينا يوجد الجناح الثاني.. تعرج يمينا فتستوقفك من الجهة اليسرى مراحيض لم تسلم بدورها من الإهمال .. بمحاذاتها يوجد مطبــخ تتقاطع فيه عادة روائــح الأطباق المتواضعة بروائح الأزبال المنبعثة من القمامة المركونة عند الباب ..
تعرج يمينا وتستوقفك الغرفة رقــم 10 التي قدر لها أن تتعايش مع الروائح المنبعثة من المطبخ والمرحاض وكذا خطوات وأصوات وقهقهات الأساتذة المقيمين في الغرف المتواجدة وسط وعمق الجناح.. غرفة متواضعة الى أبعد مدى.. لم تسلم بدورهــا من الإهمال والنسيان ..ما أن تلج إليها حتــى تستقبلك الكآبة وتفتح لك الرتابـــة أحضانها.. عند الباب من جهة اليمين، يستوقفك دولابين يفصل بينهما جدار اسمنتي ،وفي الركن الأيســـر، انتصب سريــر متهالك كان يرقـــد فيـــه الأستاذ المتدرب ” حمــدي” من السلك الإبتدائي، وفي الركن المعاكس من الجهة اليمنــى، ينتصب سريران لم يسلما بدورهمــا من عـــدوى الاهمال والنسيان تفصل بينهما مسافــة صغيـــرة عبــــارة عن زقاق لا يتجـــاوز عرضه المتــر .. السرير الموجود على اليمين كان للأستاذ “سليمان” فيما السريــر الثاني كان يرقد فيــه “سليــم” ، الجدار الأمامي تتوسطة نافذتان متهالكتان تشرفان على الممر الخارجــي.. وسط هذه الرتابة القاتلــة.. تعايش “سليم”و”سليمان” جنبــا الى جنــب.. سهرا الليالي الطوال أمام شاشــة الحاسوب بحثا عن وثائق أومــورد رقمي أو انجــاز جذاذة أو إعداد عرض من العـــــروض.. كانا عادة ما يخترقـــــان جدار هذه الرتابــة وما تحمله من صمـــــت وآهات ومعانـــاة، باعـــداد “بـــراد” شاي منعنعنـــع يتفنــن “سليمان” في تحضيــره بكل نخوة وأريحيـــة .. كؤوس الشــــاي كانت أنيسهمــا المخلص في غرفة تبــدو أقرب إلى الزنزانـــة منها الى الغرفــــة … وعلى ايقاعات نشوتها كانا يتبــادلان أطراف الحديث وكل واحد منهما يحتضن حاسوبه الصغير ..
كانت للحاسوب مكانة خاصة في يوميات الغرفة.. وفضلا على أهميته القصوى في الإشتغال والبحث .. فقد كان وسيلة ترفيــه في مجال لا مكان فيه لجهاز التلفـــاز.. إلى درجــة كانت هناك قطيعة عن العالم الخارجي ولم تكن هناك أية متابعة للأخبــار لا الوطنية ولا الدولية ولا مستجدات كرة القدم.. كان الأمر يبدو صعبــا للغاية .. لذلك كان للحاسوب مكانة قصوى .. ولا يمكن تصور حياة داخل المركز ككل بدونــه…كان التواصل بين “سليم” و “سليمان” يتم بشكل سلس وبكل أريحيــة في غياب الأستــاذ الثالت، لكن وأثناء حضوره خاصة خلال فترات الليــل.. كانت درجة تواصل “سليم ” و “سليمان” تنزل إلى مستوياتها الدنيا .. لأن قنوات التواصل مع الطرف الثالت لم تكن متيسرة .. وكان فيها نوع من التحفظ ،وربما هذا التحفظ كان له ما يبرره من الناحية الواقعية، في ظل وجود أستاذ متدرب ينتمي إلى السلك الإبتدائي وأستاذين آخرين ينتميان إلى السلك الثانوي التأهيلي بل وإلى نفس الشعبــة، وهذا مــا وسع الهـــوة بين “سليم” و”سليمان” من جهة ،والأستاذ الثالت من جهــة ثانية، وفي ظل هــذا الوضع ، يكون كل طــرف مرتبطا بحاسوبه الخاص.. بخصوص “سليم” و “سليمان” فعادة ما كانا يلتزمـــان الصمت.. ولم يكونا يتكلمان إلا باقتضــاب.. إلى درجة أنه وفي بعض الحالات كانا يتبادلان بعض الرسائل عبر”الفيسبوك” على مسافة تقل عن المتريـــن …
بالنسة للأكـل .. فباستثناء إعداد الشاي داخل الغرفة .. تعود “سليم” و”سليمان” ومنذ بدايـــة الموسم أن يتناولا وجبـــات الغداء والعشاء خارج الغرفة، وتحديدا بمحلات الوجبات الخفيفة بحي السعـــادة ..كانا يحجان إلى الحي المذكور كل زوال وكل مساء ..ثم يعودا إلى الغرفة .. لا يمنعهما لا برد ولا حر ولا شتـــاء ..لكن كانت للشاي حكاية خاصة في يوميات سليم وسليمان ، حيث وفي غياب قنينة الغـاز، فقد كانا يسخران سخانا كهربائيا في إعداد هـذا الشاي كل صباح ومساء، صحيح أن ذاك الشاي لم يكن “مشحـرا” .. لكنـه كان كافيـا لإضفـاء كل معاني “النشوة ” و”البهجة” في يوميات الرتابة داخل الغرفة رقم 10.