أقلام حرة

الوجه الآخر للتوظيف بالتعاقد

isjc

السفير 24 | ذ . عزيز لعويسـي _أستاذ التاريخ والجغرافيا بالسلك الثانوي التأهيلي بالمحمدية

رغم الجدل المتعدد المستويات الذي أثيــر و يثــــار حول التوظيف بموجب عقود بقطاع التعليم ، خصوصا فيما يتعلق بمطلب الترسيم وهاجس التخوف من فسخ العقد من جانب الطرف المشغل (الأكاديميات الجهوية لمهن التربية والتكوين) و كذا الجدل الذي أحاط ويحيط بجودة التعلمات اعتبارا لمحدودية التكوينات ، ودون الخوض في تفاصيل هذا الجدل المتعدد المستويات ، يمكن كشف النقاب عن الوجه الآخر للتوظيف بموجب عقود بقطاع التعليم على النحو التالي :

– مباريات غيرت من واقع المدرسة العمومية :

لابد من الإقرار بأن المباريات السابقة بما فيها المباراة الأخيرة ، لقيت وتلقى إقبالا كبيرا من قبل الآلاف من خريجي الجامعات من حاملي الشواهد العليا (إجازة، ماستر) من مختلف المسالك والتخصصات ، هروبا من شبح البطالة المدمر في واقع صعب من سماته البارزة انسداد الأفـــق ومحدودية الفرص المتاحة ،واستطاعت أن تستوعب حاليا -حسب الأرقام الرسمية- حوالي”خمسة وخمسين”(55) ألف أستاذ متعاقد غيروا واقع المدرسة العمومية التي أضحت تحتضن أطرا تربوية بوضعيات إدارية وقانونية مختلفة (مرسمون ، متقاعدون) وهذا من شأنه أن يضرب وحدة صف الأسرة التعليمية ويؤسس لعلاقات جديدة من عناوينها البارزة “الانغلاق” و”التقوقع” و”الحيطة” و”التوجـــس”، وإذا كانت حاليا الكفة العددية تميل لفائدة فئة “الأساتذة المرسمين” ، فإن المؤشرات تفيد أن هذه الفئــة قد دخلت في طور التراجع في ظل “مد التوظيف التعاقدي” و”جــــزر التقاعد” ، في اتجاه أن تتحول إلى “أقلية” في قادم السنوات ، قبل الاختفاء نهائيا من المشهد المدرسي ، حينها ولا شك في ذلك، سيجد الطرف المشغل (الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين) نفسه في مواجهة أطر تربوية مهمة يقدر عددها بالآلاف قادرة على التوحد والتكثل للدفاع عن مطالبها المشتركة كتحسين الأوضاع المادية أو المطالبة بالتعويضات عن الحراسة أو التصحيح أو مطلب الترسيم …إلخ ، أو لم الصف للتضامن مع زملاء لهم طالهم سلاح “فسخ العقد” من خلال وقفات أو احتجاجات أو إضرابات وغيرها ، مما ينذر بأن حال المدرسة العمومية مستقبلا ، لن يكون إلا غامضا ومبهما ومفتوحا على كل الاحتمالات ،إذا لم يتم “تجويد” عقود التوظيف بشكل يجعل كل أستاذ متعاقد يحس بالاستقرار المادي بكل تجلياته (مادي،نفسي،اجتماعي…) .

– مباريات أعادت الاعتبار لبعض حاملي الشواهد العليا ممن تقدم بهم السن:

المباريات السابقة ، استوعبت الآلاف من حاملي الشواهد العليا من مختلف المسالك والتخصصات الجامعية ، مساهمة بذلك في امتصاص البطالة وسط خريجي الجامعات ومختلف المؤسسات العليا، لكن الملفت للنظر أن المباريات لم تستقطب فحسب الخريجين الجدد ، وأغلبهم من عقد التسعينيات ، لكنها فسحت المجال أيضا لشريحة أخرى من خريجي الجامعات -النظام القديم- الذين تقدم بهم السن وتجاوزوا العقد الرابع ويئسوا وتبخرت آمالهم في الحصول على وظيفة ، وأغلبهم ارتمى في حضن مهنة أو حرفة تقيه من شبح البطالة المدمر تنعدم فيها كل شروط الاستقرار المادي والنفسي ، وهذه الفئة تتمتع بما يكفي من التجربة والخبرة في الحيــــــاة والإحساس بالمسؤولية ، مما قد يساعدها في الاندماج بسلاسة على مستوى الممارسة الصفية ، لكن بالمقابل فهي في حاجة أكثر من غيرها إلى المزيد من التكوين والتأطير ،اعتبارا للشواهد المتوفرة عليها والتي يعود بعضها إلى نهاية القرن الماضي، وبالتالي فالتوظيف التعاقدي أمكن له نقل عدة أشخاص من حالة اليأس والإحباط إلى حالة أخرى منحتهم الثقة والاعتبار والأمل .

-مباريات أبانت عن فقدان المؤسسات الخصوصية للجاذبية:

كل مباراة تعاقد إلا وتستقطب فئات من المرشحين الذين كانوا يمارسون حرفا ومهنا في قطاعات مختلفة (شركات ، محو الأمية، تجارة، أعمال حرة …)من ضمنهم أساتذة يمارسون بمؤسسات التعليم الخصوصي راكموا تجارب وخبرات لا يستهان بها في الممارسة الصفية من شأنها أن تقدم الإضافة إلى المدرسة العمومية بأسلاكها الثلاثة (ابتدائي، ثانوي إعدادي، ثانوي تأهيلي) ، وفي هذا الصدد وبعد نهاية العطلة البينية ، غادر مجموعة من الأساتذة الخصوصيين أقسامهم من أجل الالتحاق بالتدريبات التكوينية بمختلف المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين أو بفروعها بعد أن تمكنوا من النجاح النهائي في المباراة الأخيرة التي نظمتها مختلف الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين مطلع السنة الجارية ، إلى درجة أن بعض المؤسسات فقدت أكثر من أستاذ (ة) ، وهذا من شأنه إرباك السير العادي للدراسة وحرمان متعلمين ومتعلمات من خدمات أساتذة أشرفوا على تدريسهم طيلة الطور الأول وربما لسنوات سابقة ، وبالتالي وفي ظل هذه الوضعية الحرجة، ستجد المؤسسات التعليمية المعنية نفسها مجبرة على تدبير هذه الأزمة من خلال التعجيل بتعويض الأطر التعليمية المغادرة حفاظا على السير العادي للدراسة في عدد من الأقسام ضمانا لحق في التعلم “مؤدى عنه ” ، و عوض توظيف أستاذ متخصص براتب محترم قادر على تعويض الكرسي الشاغر دون المس بجودة التعلمات ، قد تلجأ بعض المؤسسات التعليمية التي يتحكم فيها “فكر المقاولة” و”هاجس الربح والخسارة” إلى تدبير الأزمة بأقل تكلفة ودون جهد وعناء بطرق مختلفة من قبيل إسناد الأقسام التي غادرها أساتذتها إلى زملاء لهم من نفس التخصص ، أو الاستعانة بأساتذة آخرين من نفس المؤسسة يدرسون مواد متقاربة ( مثلا إسناد قسم علوم الحياة والأرض لأستاذ الرياضيات أو إسناد قسم اللغة العربية لأستاذ الفلسفة أو الاجتماعيات …) أو الاستعانة بخدمات أساتذة التعليم الأولي لتدريس المستوى الأول ، أو اللجوء إلى الأطر الإدارية لسد ما تبقى من الفراغات … إلخ) ، وهذه الوضعية تسمح بإبداء الملاحظات التالية :

– أن الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين برمجت مباريات التعاقد منتصف السنة الدراسية ، وقد تحكم في هذا الاختيار ، توفير غلاف زمني مهم (ستة أشهر) للناجحين من أجل الانخراط في التداريب التكوينية بمختلف المراكز لإعدادهم للموسم الدراسي القادم.

– أن برمجة المباريات في هذه الظرفية ، أفرغ بعض المؤسسات التعليمية الخصوصية من بعض أطرها التربوية الناجحين بشكل نهائي.

– أن الدولة تحاول تدارك الخصاص في المدرسة العمومية من خلال مباريات التعاقد ، لكنها من حيث لا تدري تساهم بشكل أو بآخر في إفراغ المؤسسات التعليمية الخصوصية من بعض أطرها.

– أن نجاح بعض الأساتذة الممارسين بالتعليم الخصوصي في المباراة الأخيرة ، قد يثيـــر نوعا من الإشكال القانوني ، على اعتبار أن هؤلاء أبرموا عقود التدريب المفضية إلى عقود التوظيف مع الأكاديميات ، في وقت قد يكون البعض منهم لا يزال مرتبطا بعقد شغل مع المؤسسة التعليمية التي كان يشتغل بها.

ودون الخوض في تفاصيل هذه الملاحظات ، و رغم بعض الانتقادات والاحتجاجات التي صدرت عن رابطة التعليم الخاص ، لا مفر من الاقرار أن التوظيف بالتعاقد وبغض النظر عن الجدل الذي أحاط ويحيط به، أضحى جذابا ومغريا بالنسبة لعدد مهم من أساتذة التعليم الخصوصي، مما يعبر وبجلاء أن معظم مؤسسات التعليم الخصوصي تفتقد لعناصر الجاذبية بالنسبة لأطرها التربوية ، واستقراء لوجهات نظر جملة من الأساتذة الممارسين بالتعليم الخصوصي ، يتبين أن القطاع يعيش على وقع “المزاجية” التي تصل إلى حد “التحكم” من جانب بعض المدراء والمسيرين (ضعف الجانب التواصلي) ، يضاف إلى ذلك ضعف الأجور وقلة التعويضات ومحدودية التأطير و التكوين المستمر وغياب الوسائل الديدكتيكية واللوجيستية بالنسبة لبعض المؤسسات ، يضاف إلى ذلك تكبيل أيادي المدرسين بعقود ذات شروط مجحفة … إلخ، وهي شروط تؤسس لعلاقات شغلية مبنية على “التنافر” و”الغموض” و”التوجس” و”عدم الاستقرار” و”انسداد” أفق الخلق والإبداع والارتقاء بالنسبة للمدرس(ة) ، لذلك يبقى “التعاقد” بمثابة “الملاذ الآمن” للكثير من المدرسين الخصوصيين في جميع المستويات (أجور محترمة قابلة للتطور، الانفلات من تحكم المدراء والمسيرين، ساعات عمل محددة ،انعدام نوبات الحراسة الاعتيادية لتأمين خروج ودخول التلاميذ ، انعدام حراسة التلاميذ أوقات الاستراحة ، عقود منصفة مقارنة مع مثيلاتها في القطاع الخصوصي… إلخ) ، لذلك فمؤسسات التعليم الخصوصي ، وبدل الاحتجاج وتوجيه أصابع الاتهام للأكاديميات المنظمة لمباريات التعاقد ، لا بد لها أن تتحمل مسؤوليتها كاملة لأنها لا تقدم شروط العمل والاستقرار والحياة لأطرها ، مما يجعلهم يتربصون بكل مباراة تعاقد، ليتهم ينفلتون من مخالب التعليم الخصوصي ، لذلك لابد لهذه المؤسسات الخصوصية أن تجدد نفسها بشكل يجعلها تشكل قبلة جذابة ومغرية ليس فقط بالنسبة لأطرها التربوية أو الإداريـــة ،ولكن أيضا بالنسبة لكل من يرغب في الالتحاق بمهن التدريس من خريجي الجامعات ، والطريق نحو “الجاذبية” لن يتــم إلا بالمرور عبر عدة مسالك منها على سبيل المثال لا الحصر :

– إبرام عقود متوازنة ومنصفة لطرفي العقد( مدير المؤسسة الخصوصية – الأستاذ(ة)).

– تمكين الأستاذ(ة) من راتب شهري محترم قابل للتطور ، ومن تعويضات محفــــزة.

– تزويد الأستاذ(ة) بالوسائل الديدكتيكية الضرورية .
– التأسيس لعلاقات تواصلية جديدة مبنية على التقدير و الاحترام ، لا على السيطرة والتحكم من جانب بعض المدراء والمسؤولين.

– تفعيل آليات التكوين والتكوين المستمر، حتى يكون الأستاذ(ة) ملما بكل المستجدات سواء المعرفية أو البيداغوجية أو الديدكتيكية.

– الأخد بأيدي حاملي الشواهد العليا (إجازة ، ماستر) الراغبين في إجراء التداريب بالمؤسسات الخصوصية ، من خلال تأطيرهم و تدريبهم على الممارسة الصفية ، و الاستفادة منهم في سد أي خصاص قائم أو محتمل.

تأسيسا على ما سبق، ومن حسنات التوظيف بالتعاقد ، أنه أنقد عددا من حاملي الشهادات الجامعية الذين تقدم بهم السن ونقلهم من حالة اليأس والإحباط إلى حالة من الأمل والحياة ، وأعطى للبعض الإمكانية في تغيير المسار المهني أو الحرفي ، وأماط اللثام عن الوجه الخفي للمؤسسات التعليمية الخصوصية التي أضحى معظمها مجــرد نقطة “مرور” و”عبور” بالنسبة لعدد من الأساتذة الخصوصيين الذين ينتظرون فرصة الارتماء في “حظن” التعاقد ، وهذه المؤسسات تجد نفسها اليوم ، ملزمـة بتغييـر واقع الحال و تجديد ما يمكن تجديده ـ لجعل أطرها محصنين من تيار جارف إسمه “التوظيف بالتعاقد”.

الإدارة

مدير النشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى