هل يمكن تطبيق الشريعة الإسلامية في أفغانستان سنة 2021-2022م؟
د. يسين العمري – دكتور في سوسيولوجيا الدين والسياسة
توطئة لا بدّ منها:
على إثر سيطرة حركة طالبان الأفغانية على أفغانستان، بعد الانسحاب الأمريكي المفاجئ وما خلفه من انهيار تامّ وشامل لنظام الرئيس الأفغاني الموالي لأمريكا “أشرف غني”، الذي فرّ إثر دخول طالبان إلى كابول إلى دولة طاجيكستان، وهو ما خلف طرح سلسلة من الأسئلة مع عودة طالبان للحكم بعد 20 سنة من الاحتلال الأمريكي، هذه الأسئلة هي في الحقيقة قديمة جديدة يعاد طرحها مرات ومرات، لكن مبرر إعادة نبشنا في هذا الموضوع هو كما أسلفت سيطرة طالبان على أفغانستان، وإعلانها عن إقامة إمارة إسلامية هناك وعزمها تطبيق الشريعة الإسلامية في الحكم، وبالتالي ثارت مخاوف العديدين داخل وخارج أفغانستان من بعض النقط أبرزها:
- وضعية المرأة.
- وضعية الأقليات الدينية والمذهبية.
- حقوق الإنسان والحريات الفردية.
- تطبيق الحدود الشرعية.
هذه النقط وغيرها تثير ذعراً حقيقياً لدى عدّة دوائر حكومية وغير حكومية في الغرب، وحتى في العالمين العربي والإسلامي، لذلك سنحاول في هذا المقال أن ندلي بدولنا في هذا النقاش.
كثيراً ما سمعنا عبارة “الإسلام صالح لكلّ زمان ومكان”، وكثيراً ما ناقشنا في جلساتنا مع مثقفين وأساتذة جامعيين وحقوقيين مغاربة وعرب مسألة تجديد الخطاب الديني، وملاءمة النص الديني مع الواقع المعاش، والأمر في كليته لا يخرج عن تصورات ثلاث: خطاب محافظ أو تقليدي يرفض من الأساس أي تفسير “حداثي” للنصوص تحت أي مسمى وأيّ سبب، ويعتبر ذلك خروجاً صريحاً عن الدّين بل ومنهم من يعتبره كفراً وافتئاتاً على الله ورسوله ودينه، وهناك خطاب ثانٍ “علماني حداثي” متشدّد أيضاً يدعو إلى القطع بشكل حادّ مع الموروث بصفة عامّة ومنه الدّين كسبب للتخلّف وعدم النهضة … إلى آخره، وفي تقديري هذان رأيان في قمّة الانغلاق والتبعية والارتكاس، لأنّ الاتجاه الأول متخلّف يعود بعقارب الساعة إلى الوراء، وكلّ مشروعه مبني على الماضي، في حين أنّ الطرح الثاني تخريبي، يسعى إلى هدم المجتمعات من الداخل، وهو تابع شكلا ومضموناً للغرب، فهذا الطرح قائم على تقليد الغرب تقليد القردة، فكلّ قوامه مهاجمة الدين ورجال الدين، ويعزو كلّ نكسة إلى الدين وأهله.
إذن بقي هناك اتّجاه وطرح واحد يمكن في تقديري مناقشته بهدوء، وهو إعادة فتح باب الاجتهاد من طرف من هم مؤهلون لذلك من علماء ومفتين وفقهاء، وهذا ما يعني تنزيل النصوص الدينية على الواقع المعاصر والراهن، ومحاولة معرفة حكم الدين فيها، مع تجاوز منطق المغالاة من جهة والتشكيك من جهة أخرى.
نأخذ مثالين لنحاول عرض وجهة نظرنا في مسألة إمكانية تطبيق الشريعة في عامنا هذا أو العام الذي يليه مثلاً:
1- قضية تطبيق الحدود:
درسنا في كلية الحقوق بفاس مادّة القانون الجنائي، ودرسنا ضمنها التشريع الجنائي الإسلامي، ونفتح قوساً لنشكر أساتذتنا الأفاضل أطال الله بعمرهم ورحم الله من لم يبق في دنيانا الفانية، فقد علّمونا أنّ الحدود في الشرع الحنيف هدفها الزّجر والرّدع لا غير، فالمرء حينما يريد سرقة أو متاع مملوك لغيره سيعلم يقيناً أنّ مصيره إذا ضُبِطَ هو قطع يده، هذا عامل نفسي كفيل بجعله يرعوي وينزجر ويخاف من هذه العقوبة المغلّظة، وربّما قد يراها قد طُبّقَت على غيره، فيكون ذلك أدعى ليحجم عن قرار السرقة. لكن ونحن نتحدّث عن مطابقة النّص للواقع، والمعلوم أن قطع يد السارق مسألة منصوص عليها بنصّ قرآني قطعي الدلالة، ألم يوقف الخليفة عمر بن الخطاب حدّ السرقة في عام “الرّمادة”، وهو عام حدثت فيه مجاعة شديدة جدّاً؟ ألم يبرّر موقفه وهو الصحابي الجليل والمبشّر بالجنّة موقفه ذلك بأنّ بيت مال المسلمين لا يستطيع توفير الكفاف (مقوّمات الحياة في أبسط شروطها) للناس، إذن لا يمكنه معاقبة السارق إن سرق في تلك الظروف الاقتصادية المزرية.
أعتقد أنّ هذا المثال يمكن القياس عليه اليوم في مسألة تناول الحدود، فكيف يمكننا قطع يد سارق امتدّت يده لمال غيره لكي لا يموت جوعاً هو أو عياله، وليس حبّاً في السرقة أو اشتهاءًا لها، كيف نفعل ذلك والناس لم يعودوا يدفعون الزكاة، كيف نفعل ذلك وفرص التشغيل شبه منعدمة؟ أليس من الأولى قطع يد السّرّاق من ناهبي الأموال العامّة من “العفاريت” و”التماسيح” على قول مسؤول مغربي سابق؟ نترك الإجابة لأهل الدين من المتخصّصين، ومعها نترك لهم أن يشرحوا لنا بكيفية دقيقة معنى “صالح لكلّ زمان ومكان”.
2- قضية المرأة:
بعيداً عن جوّ المتاجرة بهذه القضية بين غلاة العلمانيين الذين اختصروا المرأة في جسدها ولباسها وفي الجنس وسمّوا ذلك حرية فردية زوراً وبهتاناً، وبعيداً عن الآراء المقزّزة كذلك لبعض المتطرفين من الحركات الإسلامية الذين يرون في المرأة آلة لتفريخ الأبناء، جسد بلا روح، لا تليق سوى كمركوب ولا تصحّ رجولة الرجل عندهم إلا بسحل المرأة.
كلا الأمرين حقير في تقديري، والأقرب إلى الصواب النظر إلى المرأة بمنظار إنساني، فهي الأمّ والزوجة والأخت والبنت، هي زميلة الدراسة وزميلة العمل، هي مربية الأجيال هي المدرسة الأولى التي تلقينا جميعنا تربيتنا وتعليمنا الأول لديها، فكيف نحتقرها إمّا باختصارها في جسد أو بجعلها بضاعة وسلعة رخيصة في متناول الجميع؟
النساء شقائق الرجال في الأحكام، لهنّ ما لنا وعليهنّ ما علينا، وعليه، لهن الحقّ في مناصب المسؤولية، ولهنّ الحقّ في الدراسة والشغل، ولهنّ حقّ الحياة الكريمة. إنّ سؤال مراسلة قناة “” للناطق الرسمي باسم طالبان “ذبيح الله مجاهد” ينمّ عن جهل كبير بالإسلام، إذ سألته هل ستفرضون الحجاب على النساء الأفغانيات؟ سيدتي وبالمناسبة هي ترتدي الحجاب في الشارع العام رغم كونها نصرانية قبل سيطرة طالبان على كابول، وبرّرت ذلك بأنّه يشكّل لها نوعاً من الحماية، هذا بعظمة لسانها، سيدتي: سؤالك هو ما قلت عنه اختصار للمرأة في جسدها، عوض سؤاله عن دراسة المرأة أو عملها أو حصولها على مناصب في “الإمارة الإسلامية” وهو ما سأله صحفيون آخرون، تشكّل لهم قضية المرأة مفترق طرق، تسألينه عن الحجاب؟ سيدتي إنّ كون الحجاب بنصّ القرآن فرضاً دينياً على نساء المسلمين ” يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن” سورة الأحزاب 59، ونترك للسادة العلماء الأفاضل تنويرنا في ما يخصّ تفسير هذه الآية، فالعديد من المسلمين يعتبرون الحجاب مرادفاً للسفور، وفيه مظهر للعفاف والإحصان، ولو أنّ المظاهر قد تكون خادعة، غير أنّ ذلك متروك للنوايا ولله الذي يحاسب على النوايا، لا نحن البشر، لأنّنا لسنا مفتشين في ضمائر الناس، وعليه فالراجح لديّ أو قناعتي وفهمي هو أنّ الحجاب فريضة دينية، لكن عمل المرأة بهذه الفريضة يعود لها هي، هل تلبس الحجاب أو تخلعه، هو قرارها الشخصي وحريتها الفردية، ولا يملك أحد فرض وصايته عليها في ذلك، اللهم إلا من باب التواصي بالخير وبذل النصيحة بين المسلمين لا غير.
3- مسألة حقوق الأقليات:
نقصد بالأقليات تلك المجموعات التي تشكّل أقلية عددية في مجتمع ما، لها هويتها الخاصة بحيث تنتمي إلى عِرق خاصّ غير العِرق الذي ينتمي إليه أغلبية سكان البلد، أو تعتنق ديانة أو مذهباً دينيا مخالفاً لدين الشعب والدولة، وهناك من يوسّع مفهوم الأقلية ليدخل ضمنها تصنيف الهوية الجنسية، فيعتبر مثلاً الشواذ جنسياً أقليات، إلى غير ذلك من التصنيفات، لكن المتعارف عليه هو الأقلية الدينية – المذهبية أو الأقلية العرقية، فمثلاً في المغرب عندنا أقلية يهودية في مجتمع أغلبيته الساحقة مسلمون سنّة مالكيُو المذهب أشعريُو العقيدة، وتوجد بمصر أقلية نصرانية قبطية، وبالجزائر أقلية إباضية، وبأفغانستان أقلية شيعية، وبإيران أقلية سنية، وهكذا دواليك، وتوجد أقلية كردية بتركيا، وأقلية عربية بإيران، وأقلية تركية بالصين… إلى آخره. فكيف يمكن التعامل مع أقلية ما بناءًا على الشريعة الإسلامية؟
طبعاً نعود بالوراء إلى حدث دستوري شهدته بداية تأسيس الدولة الإسلامية في عهد الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، فقد جاء إلى يثرب (المدينة المنورة) ووجد بها أقلية عددية يهودية، فهل أبادهم؟ هل طردهم؟ هل تعامل معهم بالسحق والمحق وقطع الرؤوس؟ الجواب لا وكلّا، لأنّ أول ما قام به هو العكس تماماً، إذ أبرم معهم تحالفاً عسكريا، ونظّم معهم العلاقات سياسياً واقتصاديا وتجارياً، وأقرّ لهم بحقّهم في اتّباع دينهم دون تضييق، وكانت وثيقة المدينة، التي يسميها البعض دستور المدينة. صحيح أنّه دخل صلى الله عليه وسلّم فيما بعد مع اليهود في حروب، لكن ذلك من باب الاستثناء، لأنّ عدم احترامهم للمواثيق التي وافقوا عليها وأقرّوا بها، دفعت نحو الصّدام، وإلا فإنّ الأصل هو المهادنة والوفاق والوئام مع الأقليات في المجتمع المسلم، ما دامت تحترم التعايش المشترك، ولا تفرض ديكتاتوريتها على الأغلبية، فالتسامح كذلك ليس شيكاً على بياض، إن تعارض مع النظام العامّ للدولة، أو عكّر صفو الأمن الروحي للمجتمع.
وقد زكّى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا الطّرح في معاهدته مع أهل القدس بعد فتحها. وبخصوص مسألة دفع الجزية، فواقع الحال أنّها سقطت، لأنه لا المسلمون حالياً يدفعون زكاة، ولا أهل الكتاب يدفعون جزية مقابل حمايتهم والدفاع عنهم، الآن كلّ المواطنين يدفعون الضرائب، ويتجنّدون في الجيش، ولأهل الاختصاص من السادة العلماء التفصيل والاستفاضة في هذه النقطة.
4- الحريات الفردية: لنتّفق بادئ ذي بدء على أنّ ما يعتبر حرية في المغرب مثلاً، ليس بالضرورة اعتباره حرية في كندا أو الولايات المتّحدة، ولنضرب مثالاً على ذلك بالشذوذ الجنسي أو العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، فالمغرب مثلاً يجرّمها ويعاقب مرتكبيها، لأنّ قوانين المغرب مستمدّة من الشريعة الإسلامية في كثير من مقتضياتها، لأنّ ثقافتنا كمغاربة هي كذلك، وينبغي احترامها، مثلما ينبغي علينا أيضاً احترام وتفهّم أنّ الشذوذ الجنسي والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج في الغرب مسموح بها ولا يعاقب عليها القانون.
إنّ الشريعة الإسلامية تحثّ على التستر في هكذا أمور، وإلا فإن خرجت إلى العلن وقامت عليها الحجّة، فإنّ العقوبة من طرف وليّ الأمر، لا من غيره، باتت مستوجبة، وإذن فمفهوم الحريات الفردية، هي مسألة يستعصي تعميمها، فارتداء الحجاب أمر عادي في الدول العربية الإسلامية، لكنه غير مسموح به في الكثير من دول الغرب، التي تمنعه بقوانين، وتغرّم من ترتدينه.
أيضاً حرية المعتقد والإفطار العلني برمضان، هي أمور يمكن لأي فرد اعتناقها وفعلها في مسكنه وفي قرارة نفسه، لاقتناعه بها، فلا أحد يجبره على الإسلام، كلّ فرد من حقّه أن يؤمن أو لا يؤمن، يتديّن بأي ديانة يريدها ويقتنع بها، يطبّق فرائض الإسلام أو يسقطها جملة أو يسقط بعضها، لا حقّ لأحد في أن يجبره على اعتناق الإسلام أو الالتزام به، لكن خروج هذا الاقتناع من الدائرة الفردية الخاصّة إلى الضوء والعلن، من شأنه خلق بلبلة لدى الناس، وزعزعة عقائدهم، وبالتالي وقوع الفتنة، وهذا محظور في الشريعة الإسلامية، مثلما هو محظور في الولايات المتحدة والغرب عموماً تمجيد داعش مثلاً، أو معاداة السامية، تلك أفكار قد يعتنقها بعض المسلمين في الغرب، فإن خرجت إلى العلن، أودعوا السجن، وبالتالي لا يمكن الكيل بمكيالين، فالحرية طريق لها سكّتان وليس سكّة واحدة، من يقبل حقّ الغرب في معاقبة معتنقي الفكر الداعشي وهو أمر جد منطقي، وحتى في دولنا الإسلامية نفعله، فعليه أن يقبل أيضاً أن تعاقب تشريعاتنا القانونية المستمدّة من الشريعة الإسلامية أن نعاقب من يسعى لإحداث فتنة مجتمعية وتعكير صفو الأمن الروحي للمجتمع، من خلال التشكيك و إلقاء الشبهات.
للأسف بعض الأصوات، ممّن أسمّيهم “مناضلو ومناضلات السرير والصّاية”، يختصرون الحريات الفردية في أمور جنسية محضة، كحرية الإجهاض، وحرية التعرّي، وحرية ممارسة الجنس خارج إطار الزواج، وحرية الشذوذ الجنسي…. وبالمقابل ينتقدون وتحارب حرية المرأة في ارتداء الحجاب مثلاً، ولا يمكن إيجاد مصطلح لمثل هذا التناقض الحادّ سوى “النفاق”، في حين يفترض أنّ مفهوم الحريات أعمق وأشمل من ذلك بكثير، أينهم من حرية الصحافة؟ حرية الرأي والتعبير؟ الحق في الشغل والسكن والتطبيب؟ الحق في التعليم… إلى آخره.
نختم إذن بمحاولة الجواب عن السؤال المطروح بالعنوان: هل يمكن تطبيق الشريعة الإسلامية في 2021-2022 في أفغانستان وغيرها من الدول الإسلامية وما بين الأقليات المسلمة بالخارج؟ الجواب في تقديري نعم، أصلاً نحن بالفعل نطبّقها في العديد من النصوص القانونية (الإرث مثلاً) والأعراف الاجتماعية (الأعراس والجنائز مثلاً) والتعامل اليومي بين الأفراد (إلقاء التحية، الشهادة في المحاكم … الخ)، كذلك يمكن تطبيقها من الآن إلى يوم القيامة، شريطة ملاءمتها مع واقع الحال، ولكن ليس بفهم وتفسير قديم جداً يعود لقرون سحيقة، وليس كذلك بفهم وتفسير غريب بل ومُعادٍ عن الثقافة الإسلامية.